.

أحمد لمسيح يكتب : «شبشوب، راهبة الفن»

أحمد لمسيح يكتب : «شبشوب، راهبة الفن»

آربريس / عندما اتصل بي الإخوة في الاتحاد المغربي للثقافات المحلية بشأن تقديم شهادة في حق المرحومة فاطمة شبشوب، لم أتردد في الاستجابة لأمرين، أولهما تقديري للجمعية وثانيهما وفاء للمرحومة.
وأعترف بأني استسهلت المهمة،غير أني تعثرت في أول خطوة بسبب قلة اختلاطي بها، وندرة اللقاءات الثقافية التي جمعتنا، وحاولت تذكر ما كان يتداول عنها شفويا فوجدت أغلبه مجرد نمائم غير صالحة للاستعمال والاعتماد وبالأحرى الاستشهاد، واستنجدت بانطباعات سريعة تعتمد على التلفيق أكثر من التدقيق:
كانت توهم أنها بلا أسرار لكنها سرُّ نفسها، راهبة ذاتها، وسط الصخب والكثرة كانت تعيش العزلة. كانوا يقولون عنها استفزازية وأراها كانت تُخرِج أشواكها لتحمي نفسها من اقتحام مفاجئ لما تعتّم عليه في قلعتها الباطنية.
بعفويتها وصراحتها وجرأتها كانت تربك الكثيرين من الازدواجيين، وتوقظ في تمردها الأسئلة المؤجلة لتؤكد أن امتحان المثقف هو في علاقته مع المرأة، وهنا أستحضر ومن خلال تذكر لحظات قليلة جمعتنا مفارقة لافتة، كانت مناضلة شرسة في الدفاع عن مبدأ الجندر، وفي نفس الآن أغلب صداقاتها كانت مع الرجال.
اكتشفت هذا أول مرة في أول مهرجان للزجل في مكناس، وكنت طرفا فيه وبعده صدر عدد من مجلة” آفاق” خاص بالزجل، كان هذا المهرجان من تنظيم اتحاد كتاب المغرب وجماعة مكناس، وكانت وحدها تقارع وسط عماء ذكوري مغرور لندرة الزجالات آنئذ، وكانت من السباقات للانتساب إلى الزجل الذي لم يكن عائقا أمام انشغالاتها في الاشتغال على الإنتاج في المسرح والسينما والتلفزيون، وتعدد انشغالاتها كلفها العزلة. وهنا أستحضر ما رواه الدكتور عبد السلام الفزازي عندما قال لها: في اليوم 24 ساعة، فمن أين تجدين الوقت للقيام بكل ما تقومين به فردت عليه: تمنيت لوكان في اليوم أكثر من 24 ساعة.
قلت هذا لأؤكد أنها كانت تشتغل كثيرا وتسارع الزمن وكأنها تسعى للمفتقد الذي تجهل كينونته ولكنها تصر على الحياة من أجله هو فقط، وما هو غيره كأنما تعتبره مجرد إشاعات.
لهذا كانت تميل للاستقلال كي تتفرغ للإبداع. كما نقول في مغربيتنا “خلات بلاصتها “. فقد “خلات بلاصتها” هي ونهاد بنعكيدة، وضاع فيهما الزجل. فاطمة اختطفها الموت وهي في أوج عطائها، ونهاد بنعكيدة التي حجبتها عنا المحافظة المريبة وضغط الجانب الاجتماعي الذي تشتغل عليه في الإعلام، وقد كانتا استثنائيتين وصوتين متميزين.
شبشوب كانت جريئة بلا حدود، ذات طموح جامح تصطدم بسببه مع عالم الدناصير في الحياة وفي الجامعة وفي المشهدين المسرحي والسينمائي.
كنا في جيلنا ننعت المندفع والمتطرف بأنه ” طوبيس”، وأظن أن شبشوب كانت وسط هذا TGV سرا وعلانية.
لا تكف من أجل الاستراحة والإنصات الهادئ إلى الذات، بل كانت تختار السفر اللاينتهي ولو مؤقتا. كانت ترتدي في حياتها ” أقوالا ” بدل الألبسة، وتعلن مواقفها كأنها تقوم بدور في مسرحية. فكان موتها بعد حياتها إرباكا للمتوقع والمنطقي: الولادة بفاس، والأصول أطلسية وريفية، والعمل في مكناس، والدفن في الغربة داخل الوطن.
في أول لقاء في المهرجان الوطني للزجل المشار إليه سابقا، بادرتني في أول تحية، “هذا أنت اللي مصدعينا به، وعانقتني”. ذلك كان مزاجها لمن لا يعرفها، عادتها، ولا تقصد منها أي إساءة. غير أن آخر لقاء بها كان بعد اتصال من الأستاذ حسن النفالي عندما قال لي : “جي إلا بغيتي تودع فاطمة شبشوب راه في المشرحة اللي في باب الأحد ( بالرباط ) . لقد ماتت غرقا وهي سباحة ماهرة”.
وصلت وتوجهت إلى الغرفة، وصدقا فقبل أن أقبل جبينها لاحظت صورتها وكأنها شرعت في الابتسام، وصادفت القليلين في مثل هذه اللحظة مثل لحظة وفاة أمي.غابت وتركت في نفسي صورة المرأة القوية…

مستجدات
error: جريدة أرت بريس