.

بورتري .. فاطمة الغيناوي : حين صحوت على يقظة حرفها

بورتري .. فاطمة الغيناوي : حين صحوت على يقظة حرفها

حسن بيريش

(1)
“رسمت وجهي على الرمال،
فبدا لي عجوزا
مع أول موجة راح”.

قد تكتبني قبل أن أقرأ لها. قد تصل هي إلى الخلاصة بينما أنا في التمهيد. وربما تغريني بالإياب، بينما أنا بالكاد ألوذ بالذهاب.

حدث، مرارا، أن رجعت من قراءة فيء يدها وفي قلبي تنتصب كلمة: إن. كما يحدث أن تأتيني بموعد انهطال البورتري، فأجدها داخل القصيدة دون أي ميعاد منها، أو سبق إنذار مني.

هكذا هي الكاتبة والزجالة فاطمة الغيناوي: تمنحك وجوها متعددة في وجه واحد مفرد، فلا تدرك أنها حمالة تأويل إلا بعد أن تتوغل في شتى أبعادها، ثم تتشكل في مجمل رؤاها.

“الزمن سيف
ما يبغي بساله !
لاتحدر راسك
وتعلم تقول لا ! لا”.

(2)
“الحرف يبارز حرف
ؤ ف لقصيدة تبان نواعو
العود حنحن
ف الحركة تسمع صهيلو
صاح لمقدم
ؤ كل خيال راد بالو
السربه تحركت
ؤ ف لوصول
البارود جاب اكمالو”.

لو كنت الآن بين يدي فاطمة الغيناوي، لسألتها عبر ارتباك الإعجاب: لماذا حين نصحو على يقظة حرفك، لا تخطىء قلوبنا – أبدا – بكارة موارد رؤاك، وثراء حدوس معانيك، ثم نرتوي – بغزارة – من نبع لا ينضب من فُسَح أفكارك، من منجبات أحبارك، ويانعات حواسك !؟

كاتبة متفردة اليراع
ليس من طرازها سواها.

آلت على قلمها، مذ حَمَلَتْهُ وَهْنًا عَلَىٰ يفاع، مذ سطعت به فكرا عَلَىٰ استنارة، أن يتبدى أثيلا. لذا، هو يتجلى عبر سفور مستبصر، ويجلي كل غموض هنا، وكل حجب هناك. ربما كي يشرق شمسا في كلية ما هنالك.

“الصاغي يصغي
ؤ كل صاغي ليه سيرتو
يبكي على حالو،
اللي فقد شانو
ؤ ضاعت قيمتو”.
(3)

لم تمارس تقشير ما يزاملها من أوشاب واقع، هو أصغر من شسع توثبها، هي أكبر من ضيق قيوده. في أوج استشراء التسلط، وتفاحش الهيمنة، سارت بها جرأتها الطلعة، حثيثا وبشكل لا يغالب، صوب الارتداد عن كل المحظور المتزمل بالمباح. ونحو تقليم أظافر الحجر المختفي، بمكر، وراء أوهام العرف.

ٱلطَّافحة بغير المتوقع، الضاجة بمجهول المعلوم، الثرة بوابل الانتفاض، الطاعنة في الاستبانة. صفات وارفة الرسوخ، جمة الوثوق، عبرها نزلت فاطمة الغيناوي إلى حلبة الوَغَى، لتنازل واقعا اجتماعيا مشوبا بكل أنواع النبذ، الإقصاء، الاحتكار، الوصاية، وهلم استباحة ووأدا !

“أرادت الحروف الولوج إلى أماكن لتنيرها مصابح خائفة لأن سماء ذاك الفضاء غاب قمرها وسبحت في بحر الظلام، قاومت الحروف أمواج اللامبالاة، فامتطى الجهل جواده وأصبح يحصد الأخضر واليابس في مواقع التواصل، أمست الحروف هشيما تذروه رياح الهاتف المحمول”.

(4)

إذكاء شعلة الكتابة ضرام عندها، ما آل، يوما، إلى أي خمود. إنه جمرتها الملتهبة التي تنتقل بها من رأي إلى موقف، من حراك إلى انبعاث، عبر اعتماد مكين عَلَىٰ شفوف الحدس، عَلَىٰ نفثات قلم، وأبدا ما ارْتَوَى لها حبر وهي تذود عن شرف الكلمة، وتعلي من سؤدد المعنى.
“شفت حروف قصيدتي مفرتكة
تقلب لي لمجاج
دخلت لجدبة مكشكشة
سالت دمعتي
على المسكين والمحتاج
لقصيدة ما كلمت
وقلمي من الضغط اعواج”.

على مدى عمر ونيف من مطاولة العبارة، ما تراءت أبدا، إزاء وريف القراءة، إلا وهي ترفع مشاعل النور لتضيء دهاليز الكتابة، وتطارد فلول العتمات في سراديب قدت من جهل مركب. لكأن الشاعر الشريف الرضي كان يعبر عن دأبها هي، لا ديدنه هو، لما قال:

“أخط وأمحو الخط
ثم أعيده” !

“دخلت شلا احلاقي
ؤ كل حلقة وجدتها
سفينة من لقوافي
الحاكي يحكي،
ؤ عل لقصيدة بنى خيمتو
كلام يدمي
كلام يشفي
ؤ كلام يقلب
على حضن دافي”.

(5)
“ف بحر بهاله كلامي
خذا قيمتو
عطشي لقوافي
زادت حررتو
الحاملين لخفيف
سلمو علي ؤ فاتو”.

لا تشهر النسيان في وجه ما يزعجها، لا تبتغيه، بل تسلط عنفوان الذاكرة على هدأة المحجوب، كي يسفر بين يدي جرأتها الأمارة بديمومتها.

لم يحدث أن كان يراعها غير مضيء، بكل ثقله وتأثيره، في معارك استعادة الكرامة الإنسانية المهدورة لمن جعل الله الجنة تحت قدميها، ومنحها شرف ولادة ذاك الذي يجحد أفضالها !

الغيناوي اختلاف أول، ثم اختلاف ثان، وأبدا لا اتفاق يذكر مع فواحش الحيف. لا هدنة مع نوازل التهميش. وحده الجهر بالآه، بالوجع، بالأسى، مدخل لاستيعاب مسارها الحافل، المدهش، في مواجهة الافتئات الاجتماعي.

يوم أهدتني دواوينها وأنا في مدينتها سوق الأربعاء: “القلم الجوال”، “وراء الستار”، و Reflets et perspectives L’eurytmie وجدتني أختلف مع مقولة أسلافي: “الجود بالمجهود منتهى الجود”. لأن فاطمة كانت فوق الجود نفسه.

أما مجهودها الشفيف،
باللغتين معا،
فقد بدا لي أعلى من المتوقع،
ورأيته أكبر كثيرا من المظنون.

(6)

حاليا، أنا كلي إنصات إلى انهطال حبرها الدمث. ثم إلى استقبال آي زلالها الفياض.

“ماذا قالوا
ماذا دواو
سبحت ف بحر لحروف
من الألف ل لواو
لقصيدة بكات
عل لقوافي
ودموعها كشفوا
السر الخافي
قطفها الراوي
وسقاها بالما الصافي”.

هلْ جَرّبْنا أن نُقلب ٱللّغَة، ذات اليمين وذات الشمال، كي نزن وقعها، كي ندرك كم فيها من بر وبحر وسماء، حتى نتمكن من فهم طولها في عرضها، وحجمها في كثافتها، وذكاء صوتها عبر تلقائية نشوتها ؟!

أنا جَرّبت ذلك مع لغة الغيناوي، عبر عدة قراءات، وشتى تأويلات. ثم وصلت إلى نتيجة فحواها: هذه لغة مسكونة بتفرد ما تقدم. ممهورة بفتن ما تأخر. معلومة في مجهول ما سيأتي.
من سحر البيان العادي: تأخذ جماع ما فيها من صباحة. وعبر بيان البساطة: تستعير كل ما انطوت عليه من نضارة.

أما الفواتن الباقيات، إني أصيح:
اتركوني أصحو
على صيد صورها !

(7)

كل تصفح لكتبها النفيسة، يقود إلى نحت عبارات من قبيل: نحن إزاء كاتبة مهمومة بالواقع، تنغل بالتفرد، وتكتظ بآيات التميز، وتعتلي الكلام النادر ندرة مسيرها.

إذا التزم سواها بالصمت،
عانقت هي وافر الجهر.
إن انشغل غيرها بالحصاد،
أسرفت هي في الزرع.

ويكفي النظر إلى أفكارها المطروحة، إلى آرائها المنشورة، إلى رسوخ مواقفها، وإلى علو صوتها، كي يفر أي ظن، ثم يأتي كل اليقين مهرولا يؤكد صدق الأوصاف، ويربت على كتف الموصوفة المتوجة.

إنها ماهرة جدا
في جعل الكتابة رهن الحياة.

(8)
في أسلوبها المدهش في بساطته، يمكنك أن تسمع أصواتا من كل عصور الروح. كما يمكنك أن ترى بلاغة كل أزمنة علو القلب.

ليس لأنها مزيج ذكي من كل ما سبق من وارف براعتها، فحسب، وإنما لأنها – كذلك ـ خلاصة جماع هذا الخليط المغوي.

كثيرا ما يبدو لي
أن هذه الكاتبة
الزاخرة ببيض الحروف
الموارة بخضر المعاني،
لا تكتب بالحبر،
وإنما ترسم باللون،
وتنحت بالإزميل.

إنك، وأنت منهمك فيها، في قراءة متنها، تتذوق شهد المجازات. تحلو في لسانك أطايب الاستعارات. وبدون أن تشعر، تبدأ في هز رأسك، في التلويح بيديك، في إنتاج بريق عينيك.
ثم تصيح متولها:

الله، الله، الله،
على بهاء منثور
يرتدي معطف أسلوب !

أنا – الآن – من أصيح، بعد أن أسكرتني صهباء محبرتها. وطوح بي، نحو الفتون، يراعها

مستجدات
error: جريدة أرت بريس