.

قراءة في مسرحية “امتدادات”: هل الامتداد ضمانة للبقاء أم إعادة إنتاج للعدم؟ ليتناسل عبر العنف والاحتيال

قراءة في مسرحية “امتدادات”: هل الامتداد ضمانة للبقاء أم إعادة إنتاج للعدم؟ ليتناسل عبر العنف والاحتيال

سعيد العفاسي / صحافي، ناقد فني

تأتي مسرحية “امتدادات”، من تأليف وإخراج الفنان هشام الغفولي، من إنتاج فرقة “ستيلو برود” المغرب، في سياق مسرحي يبحث عن تفكيك البنى الاجتماعية والسياسية عبر الحبكة الرمزية والشخصيات المركّبة، العمل لا يقدّم حكاية خطية عن “حاكم صغير يريد وريثاً”، بل يفتح أفقاً فلسفياً لمساءلة فكرة الامتداد: هل الامتداد استمرار للدم والسلالة، أم إعادة إنتاج للظلم والقهر؟ وهل حقاً يمكن للإنسان أن يضمن بقاءه عبر نسل بيولوجي، أو حتى سياسي، أم أن البقاء رهين بُنى اجتماعية أوسع؟

في مسرحية “امتدادات” من تشخيص الفنانة نسرين المنجى، سهام لحلو، القيدوم العربي الزهراوي، عي الرحيم التميمي، سعيد الودغيري، نواجه أربع شخصيات محورية “: الرايس” البشير، رمز السلطة التقليدية القلقة على مصيرها، “مريم” الزوجة الشرعية التي تمثل الشرعية الاجتماعية، لكنها مهددة بالعقم الاجتماعي (إنجاب الإناث فقط)، “قاسم” الأخ الطامع، ظلّ “الرايس” ومنافسه الدائم، “البتول” الغريبة/الرحّالة، جسد عابر يتحول إلى وعاء للوراثة، وتنتهي القصة بميلاد “سرمد”، الكائن المشوَّه الذي يجمع بين كل خطايا السلالة، ويصير مع الوقت حاكماً يعيد إنتاج ذات الدورة: البحث عن امتداد آخر.

بهذا، لا تكون “امتدادات” مسرحية عن صراع عائلي فحسب، بل عن بنية السلطة وكيفية تناسلها عبر العنف والاحتيال، إنها امتداد مركّب يتجاوز الحكاية المباشرة ليشكّل سؤالاً فلسفياً عن معنى الامتداد وشرعية البقاء. فهي ليست مجرد مأساة عائلية عن حاكم مهووس بالوريث، بل هي محاكمة عميقة للبنى السلطوية التي تؤسّس وجودها على الوراثة، وعلى ذكورة يُنظر إليها كشرط للشرعية، وكأن الاستمرارية السياسية لا تتحقق إلا عبر الدم. بهذا المعنى، يقف “الرايس” البشير بوصفه رمزاً للسلطة التي لا تعترف إلا بالذكور امتداداً، “ما أريكم إلا ما أرى” لتتحول جسدية المرأة إلى مجرد أداة في خدمة مشروع سياسي. وهنا تتقاطع المسرحية مع أطروحات ميشيل فوكو عن كون الجسد ميداناً للسلطة، حيث يُختزل في وظيفته الإنجابية ويُسخَّر لتأبيد منظومة قمعية.

لكن التراجيديا الحقيقية لا تكمن فقط في هذا الاختزال، بل في النتيجة العبثية: فالامتداد الذي سعى “الرايس” بكل السبل لتحقيقه لا يلد حياة جديدة بل مسخاً، متمثلاً في شخصية “سرمد”، الكائن الذي لا يشبه أحداً. إن ولادة المشوَّه ليست حدثاً بيولوجياً عارضاً، بل علامة مسرحية-رمزية على فساد الأساس، إذ إن كل ما يُبنى على الخيانة والعنف لا يمكن أن يثمر إلا تشوهاً تاريخياً. هنا نستحضر صدى التراجيديا الإغريقية: فكما أن أوديب يولد نتيجة خطيئة قدَرية ويصبح لعنة على مدينته، يولد “سرمد” من رحم خطايا متراكمة (الخيانة الزوجية، الطمع الأخوي، الاستغلال الجسدي) ليكون هو نفسه تجسيداً للكارثة القادمة.

في هذا المستوى، تتبدى المسرحية وكأنها تقيم جسراً بين التراجيديا الكلاسيكية والعبث الحديث. فهي من جهة تستدعي نموذج المأساة الإغريقية حيث تتوارث الأجيال خطايا الآباء، ويصبح الابن قدر المدينة بأكملها. ومن جهة أخرى تقترب من مسرح العبث (بيكيت، يونسكو) حيث ينهار المعنى، ويتكرر التاريخ بصورة ساخرة ومرعبة في الوقت ذاته. فشخصية “سرمد”، بوجهها المشوَّه وسلطتها القادمة، تمثل العبث المطلق، امتداد من أجل الامتداد، حكم من أجل الحكم، إعادة إنتاج لنظام فارغ من أي معنى أخلاقي أو إنساني.

إن النهاية، بولادة “سرمد” وصعوده إلى الحكم، ليست مجرد تطوّر درامي بل مفارقة فلسفية، فالسلطة التي اعتقدت أنها تضمن خلودها عبر النسل، لم تخلّد سوى تشوّهها الذاتي. هنا تتجلى جدلية الامتداد بوصفه لعنة لا خلاص منها، كل محاولة للتشبث بالبقاء عبر القوة والذكورة والخيانة، لا تنجب حياة جديدة، بل تستدعي الموت في شكل آخر. وكأن المسرحية تقول إن التاريخ، حين يبنى على الاستبداد وإقصاء الآخر، لا يورّث إلا أشكالاً مشوهة من السلطة، أشبه بوجوه “سرمد” التي لا تنتمي تماماً إلى الإنساني ولا إلى اللاإنساني.

وهكذا تتحول “امتدادات” إلى مرثية فلسفية للسلطة، وإلى نقد مسرحي عميق لبنية الامتداد نفسها، هل الامتداد ضمانة للبقاء أم إعادة إنتاج للعدم؟ وإذا كان الابن في المأساة الإغريقية لعنة، فإنه في “امتدادات” يتحول إلى مسخ عبثي يختصر الحاضر والمستقبل معاً. وفي كلا الحالتين، يظل الامتداد، حين يُبنى على الخطيئة، مرادفاً لتاريخ يعيد إنتاج نفسه بوجوه مشوَّهة، وكأننا عالقون في دائرة لا مخرج منها إلا بالوعي بحتمية التكرار وكسر منطق الوراثة السلطوية.

تقوم البنية الدرامية في مسرحية “امتدادات” على ثلاثة محاور سردية: – محور الامتداد البيولوجي، حيث” الرايس” يبحث عن ذكر يواصل حكم البلدة، فيكشف النص هوس المجتمعات الأبوية بالذكورية كوريث للسلطة، لا باعتبارها صفة طبيعية بل كأداة شرعية للهيمنة. – محور الخيانة والصراع العائلي: علاقة قاسم بزوجة أخيه مريم، ثم علاقته بالبتول، تفضح هشاشة الروابط الأسرية عندما تخضع لمنطق المصلحة والسلطة. هنا تتحول الأسرة الصغيرة إلى نموذج مصغّر للدولة: الأخوة تتناحر، الزوجة تخون، والسلطة تتفكك من الداخل. – محور القدرية والتكرار: ولادة سرمد مشوهاً، ثم صعوده للحكم وتكراره ذات الهوس الأبوي، يشير إلى دورة تاريخية عبثية، حيث تتوارث الأجيال الأخطاء نفسها دون فكاك.

أما الفضاء المسرحي، فيتسم بالانغلاق: بيت “الرايس” رمز القلعة السلطوية، لكنه يتحول إلى مسرح للفضائح والعنف الدموي. الانغلاق هنا ليس مكانياً فقط، بل نفسياً أيضاً؛ فالشخصيات محاصرة داخل رغباتها وغرائزها، ولا تجد خلاصاً إلا عبر الانفجار.

يمثل ” الرايس” البشير، سلطة موروثة، لكنها قلقة، عاجزة عن ضمان استمرارها. شخصيته مشبعة بالخوف من الفناء، فتدفعه إلى التلاعب بالأقدار (استقدام البتول) ليصنع امتداداً وهمياً. “الرايس” هنا ليس مجرد طاغية، بل صورة “الأب القاتل” الذي يبرّر جرائمه باسم البقاء.

فيما تمثل “مريم” الزوجة التي تعيش انكساراً مزدوجاً، فهي تُختزل إلى رحم فاشل لا ينجب الذكور، وتُهان بقدوم البتول كبديل عنها. غير أن غيرتها تكشف المستور: الخيانات والخداع. مريم إذن تمثل صوت الحقيقة، لكنها لا تنجو من التهميش.

وقاسم في “امتدادات” شخصية معقدة تجمع بين الأخوة والخيانة. وجوده في النص يفضح هشاشة السلطة القائمة على الدم، إذ أن الأخ نفسه يتحول إلى عدو. قاسم ليس مجرد طامع، بل يعكس منطق “الظل” الذي يطارد كل سلطة: الخائن الداخلي.

كما أن “البتول” امرأة رحّالة، جسد عابر، لكنها تتحول إلى مركز السرد. وجودها يزعزع كل التوازنات، فهي ليست أمّاً بالمعنى العاطفي، بل “رحماً مأجوراً”، تجسيد لانتهاك القيم الإنسانية عندما تُختزل المرأة إلى وظيفة بيولوجية.

أما “سرمد” فهو وليد الخطيئة، مشوّه الوجه، لكنه ينجو ليصير الحاكم الجديد. اسمه “سرمد” يحيل إلى الخلود والديمومة، لكنه في النص ليس سوى استمرار للتشوه. إنه تجسيد لفكرة أن الامتداد قد يكون لعنة، لا بركة.

النص يعكس هوس المجتمعات السلطوية بالذكورية، حيث يُربط الامتداد ببقاء النظام السياسي. لا يهم أن يكون الابن صالحاً أو مشوهاً؛ الأهم أنه ذكر يمكنه حمل “اسم العائلة”.، لذلك فالمسرحية تفكك مفهوم العائلة “البطريركية: باعتبارها البنية الأولى للسلطة. خيانة الزوجة والأخ تعادل خيانة الوطن من الداخل. وكأن النص يقول: لا انهيار للدولة إلا من خلال فساد أسرتها الحاكمة.

جسد مريم العاجز، جسد البتول المستأجر، جسد سرمد المشوَّه: كلها أجساد تتحول إلى رموز سياسية. المسرحية تفضح كيف يتم التحكم في الأجساد لخدمة مشروع السلطة، وكيف ينتهي الأمر بولادة “جسد مشوّه” يمثل المستقبل.

صعود سرمد للحكم يعكس فكرة “العبث السياسي”: مهما تغيرت الأجيال، فإن البنية السلطوية تعيد إنتاج ذاتها، عبر العنف والاحتيال، تقوم لغة “امتدادات” على التوتر بين البعد الواقعي (حوار حول الحمل، الخيانة، المال) والبعد الرمزي (الإشارات إلى الامتداد، التشوه، الموت). الحوار ليس مجرد تبادل للكلمات، بل ساحة صراع نفسي يكشف عن الغرائز الدفينة.

كما أن العنف الجسدي يوازي العنف الرمزي (الخيانة، الإقصاء، التلاعب). في هذا المزج، يتجلى البعد التراجيدي للمسرحية، الجميع ضحية، حتى القاتل.، بمعنى آخر “امتدادات” يمكن وضعها ضمن تيار المسرح الذي يوظف العائلة كرمز للسلطة السياسية، مثل أعمال سعد الله ونوس أو الطيب الصديقي. غير أنها تختلف بتركيزها على فكرة الامتداد البيولوجي، وعلى ولادة شخصية “سرمد” كرمز للتاريخ المشوَّه، فـ”امتدادات” لا تقدم حلاً أو خلاصاً، بل ترسم دائرة مغلقة من التكرار، في انسجام مع المسرح العبثي والوجودي، حيث لا مخرج سوى الوعي بالعبث.

مسرحية “امتدادات” معقّدة التشابكات، تشتبك مع أسئلة السلطة، الذكورة، الخيانة، والجسد. تبدأ الحكاية ببحث الرايس عن وريث، لكنها تنتهي بولادة مشوّه يحكم البلدة، في دلالة على أن الامتداد الذي يُبنى على الخيانة والعنف لا ينتج سوى تشوه تاريخي.

إنها مسرحية تضعنا أمام مرآة قاسية: ما نزرعه من عنف وخداع في الحاضر، نحصد نتائجه في المستقبل. والامتداد ليس بالضرورة حياة، بل قد يكون موتاً متكرراً بأشكال جديدة، تندرج مسرحية “امتداداتضمن نمط المسرح المعاصر الذي يسعى إلى مساءلة البنى الاجتماعية والسياسية عبر حكايات تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها غنية بالرموز والإسقاطات. فهي من حيث البناء الدرامي قصة بسيطة في تراتبية مشاهدها وطريقة سردها، لكنها تتجاوز ذلك إلى فضاء مركّب من حيث المعنى، إذ تجمع بين الواقعي في تفاصيلها الإنسانية واليومية، والغرائبي في نهايتها المفاجئة بولادة “سرمد”، الكائن المشوَّه الذي يرمز إلى فساد الامتداد القائم على الخيانة والعنف.

تتميز المسرحية بأسلوب درامي تشويقي يعتمد على تصاعد الصراعات، وبنية سردية محكمة مبنية على أربع مشاهد رئيسية، تحاكي إلى حد بعيد المشهد السينمائي الكلاسيكي في إيقاعه وبنائه. وفي هذا السياق يمكن النظر إلى “امتدادات” باعتبارها عملاً يمزج بين البساطة الشكلية والعمق الرمزي، حيث تتحول الحكاية إلى أداة نقدية تكشف آليات استمرار السلطة في المجتمعات الأبوية.

المسرحية تقوم على أربع مشاهد رئيسية، تُشكّل بمثابة أعمدة السرد. هذه المشاهد لا تُقدّم زخماً من الأحداث الجزئية بقدر ما تنحت الزمن المسرحي على نحو مكثّف، بحيث يمكن تقسيمها إلى ثلاث لحظات مفصلية، ما قبل الحمل، فترة الحمل، ثم الولادة.

البنية الزمنية هنا ليست خطية فحسب، بل أشبه برحلة متدرجة في العمق النفسي للشخصيات. فالمشهد الاستهلالي يفتح فضاء الحكاية عبر شخصية البتول وهي في وضعية حمل تركض نحو المجهول، لتصبح منذ البداية رمزاً للقدر المعلّق.

سينوغرافيا المسرحية من إبداع الفنان حسن صابر، تنفيذ الإنتاج وتنفيذ الإضاءة إبراهيم بن خدة، تنفيذ الملابس لطفي الخذير، تنفيذ الموسيقى وليد الفاضلي، الإدارة التقنية نوفل ثلجي.

مستجدات
error: جريدة أرت بريس