- سعيد العفاسي
من عنوان المسرحية الذي اجترح بعناية مقصودة، “تخرشيش”، يتضح أن حمولتها ستكون فاضحة للمسكوت عنه في المجتمع المغربي، سكون محفوف بالقلق، والحوف، والرغبة في التستر خوفا من القيل والقال، وتداول الخبر.
“تخرشيش” كلمة من عمق اللهجة المغربية وهي تحريف لفعل “خشخش” ويعني صوت الأشياء إذا حك بعضها بعضا؛ أو صوت لفعل لا يريد صاحبه أن ينفضح أمره، وهو ما جاء في ملخص المسرحية “موضوع بالغ الحساسية يتمثل في العنف الجنسي وزنا المحارم، باعتباره من الطابوهات المسكوت عنها”.
يُعَدّ زنا المحارم أحد أفظع الانتهاكات التي يمكن أن يتعرض لها الكيان الإنساني، ليس فقط لكونه اعتداءً جسديًا ونفسيا، بل لأنه يقوّض الأسس الرمزية التي تقوم عليها الأسرة والمجتمع. ففي ضوء الفلسفة الأخلاقية، يمكن القول إنّ هذه الجريمة تمثل خرقًا للعقد العائلي الضمني الذي يمنح القرابة معناها وقداستها. وفقًا لتصور إيمانويل كانط، تعتبر “العائلة” ليست مجرد رابطة طبيعية بل مؤسسة أخلاقية، يُفترض فيها أن تكون فضاءً للحماية والرعاية، لا مجالاً للعنف الجسدي والعدوان المبطن تحت غطاء القرابة، أو الحب.
إلا أنّ المأساة لا تنحصر في الفعل ذاته، بل تتضاعف حين يُدفن تحت ستار الصمت والتستر خوفًا من الفضيحة. هنا تتحول الأخلاق من التزام بالحق إلى طاعة لعرف اجتماعي قائم على الصورة. إنّنا إزاء ما يمكن تسميته بـ”الاغتراب الأخلاقي”، حيث يُضحّى بالحقيقة من أجل السمعة، ويُستبدل مبدأ العدالة بمبدأ المحافظة على الشكليات.
- مسرحية”تخرشيش” تضع اليد على الجرح الغائر، والذي ينكأ في صمت وتحت جنح النهار والليل، لكن في خلوة يكون الذئب قد احكم قبضته على الضحية، ليخرج من قمقم”التخرشيش” وصولا إلى الانتهاك، “تجري أحداث “تخرشيش” في غابة (المجتمع) معزولة، حيث يعيش أب متسلط مع ابنتيه في عزلة تامة، فارضًا عليهما عنفًا نفسيًا وجسديًا، مستعملًا وسائل التلاعب والخداع”، ورمزية الغابة هنا تشير إلى ذلك المجال الذي يخفي الجريمة، ليس بكثافة الأشجار ولكن بكثافة الفضاضة وتحت شعارات الحماية والصيانة، وكم من حقوق انتهكت في مجتمع “غابوي” يدعي التحضر والعفاف والأخلاق.
لكن ظهور موظف من المياه والغابات يكشف سر العائلة ويفجر الأحداث، لتصل إلى مواجهة حاسمة تنتهي بصرخة تمرّد من الفتاتين في وجه أبيهما، كرمز للتحرر والانعتاق”.
من منظور التحليل النفسي، يعيش الضحية صراعًا حادًا بين الصمت والبوح. الصمت يولّد شعورًا بالذنب والعار، والبوح يهددها بنبذٍ اجتماعي أو قطيعة أسرية. هنا نجد ما يسميه فرويد بـ”الكبت”، حيث يُدفن الألم في اللاوعي لكنه يستمر في الظهور عبر أعراض نفسية: قلق، اكتئاب، اضطراب في الهوية، وانكسار في الثقة بالآخر. أما المعتدي، فمهما بدا محميًا بالصمت، فإنه يعيش تناقضًا داخليًا بين وعيه الأخلاقي وما اقترفه. إنّه ما وصفه سارتر بـ”سوء النية”، أي محاولة خداع الذات عبر التماهي مع قناع اجتماعي يخفي الحقيقة.
مسرحية”تخرشيش” “ليست مجرد عرض مسرحي، بل دعوة صريحة لكسر الصمت وفتح النقاش حول قضايا العنف ضد النساء”، جاءت في بداية الألفية الثالثة وفي مجتمع عربي مسلم، لكنه يعيش تناقضات شتى، فالأسر التي تتستر على هذه الجريمة تدخل في دائرة التواطؤ الرمزي. فهي تسعى لحماية صورتها الخارجية على حساب تماسكها الداخلي. كما استعمل الأب سلطته على ابنتيه لكي يستكمل مشروعه”السفاحي”.
من الناحية الفلسفية، يمكن القول إنّ هذا التواطؤ يحوّل الأسرة إلى فضاء مأزوم تحكمه الأسرار. فالثقة، التي هي شرط كل علاقة إنسانية، تتآكل تدريجيًا، ويتحول البيت من مأوى للطمأنينة إلى مسرح للريبة. يشبه ذلك ما أشار إليه بول ريكور حين تحدث عن “الجرح الرمزي”، أي ذلك الجرح الذي لا يُرى مباشرة، لكنه يظل ينهش بنية العلاقات ويمنعها من النمو السليم.
هل يمكن أن تكون مسرحية”تخرشيش” حمالة أوجه لقضايا مسكوت عنها، أو متواطأ عليها، سرا وعلنا، كم من أسرة تعرف جنوح ابنها نحو الاجرام، ولكنها توفر له الغطاء لتحميه من المجتمع بدعوى أنه”فلذة كبدها”، ضاربة عرض الحائط”فلذات أكباد الناس” من المتضررين، وهنا يكمن خطر”الغابة” التي تخفي في مساحاتها الشاسعة إشكاليات العصر ورهانات الغد، في انتظار المساهمة بنشر الوعي بين المجتمع لنبذ مثل هذه القضايا الشائكة، وفضح كل المتورطين فيها بالتشهير والاعتقال.
فالمجتمع الذي يصمت على زنا المحارم يتحول إلى فضاء للنفاق الأخلاقي. فهو من جهة يتبجح بالقيم، ومن جهة أخرى يدفن الجرائم في سراديب الصمت. إنّه، بلغة ميشيل فوكو، يمارس “سياسة الجسد”، حيث تُدار الجرائم بالخفاء حفاظًا على سلطة الأعراف. غير أن هذا الصمت لا يلغي الحقيقة، بل يعيد إنتاجها في شكل أكثر خطورة، لأنه يرسخ ثقافة الخوف من الفضيحة أكثر من الخوف من الجريمة نفسها. وبذلك ينشأ مجتمع هش، يُقدّم السمعة على الكرامة، والصورة على العدالة.
إنّ “تخرشيش” عمل يساهم في مواجهة هذه المأساة لا يمكن أن تتم من داخل منطق التستر، بل من خلال الاعتراف والبوح. الاعتراف، كما يرى هيغل، هو لحظة تأسيس للحرية؛ إذ لا تحرر دون مواجهة الذات. والبوح، في بعده الوجودي، هو شرط استعادة المعنى، لأن الحقيقة التي تُكبت تتحول إلى عبء جماعي. لذلك فإنّ الصمت ليس حلاً، بل استمرار للجرح.
إنّ الفضيحة الحقيقية ليست في كشف الجريمة، بل في إخفائها. فالمجتمعات لا تتطهر بالصمت، بل بالقدرة على مواجهة المأساة ومساءلة البنى التي تسمح باستمرارها. ومن هنا فإنّ التحرر الفلسفي من زنا المحارم لا يتوقف عند إدانة الفعل، بل يتجاوزها إلى كسر دوائر الصمت التي تجعل من الضحية أسيرة، ومن المجتمع متواطئًا في نفاقه.
إن العمل الجاد والجدير بتقفي مساراته الفكرية والتقنية، ليس الذي يمر مرور الكرام، وإنها ذلك الذي يثير الأسئلة ويطرح الإشكاليات الحارقة، وهذا ما أثارته”تخرشيش”، حيث أثارت بعض المشاهد جدلا واسعا في مواقع التواصل الاجتماعي، إذ اعتبره منتقدوه جريئا بشكل مبالغ فيه، بسبب لقطات اعتبرت خادشة للحياء، وتضمنت تجسيد شخوص المسرحية لسلوكات تحمل أبعادا جنسية مرفوضة، أو لنقل غير مألوفة، لكنها قادمة من صلب المجتمع ومن مسافات البيوت والمساكن والعقول التي تدافع علنا عن الحق، وفي السر تقوم بما لم تقم به الشياطين.
قدمت مسرحية”تخرشيش” بدعم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل، قطاع الثقافة، ضمن برناج توطين جمعية الفكاهيين المتحدين للثقافة والفنون، فرقة المسرحيين المتحدين لعام 2025
إخراج ودراماتورجيا: مريم الزعيمي/ تأليف: عبد الفتاح عشيق / سينوغرافيا والملابس: أسماء هموش/ التأليف الموسيقي: ياسر الترجماني / تصميم الكوريكرافيا: كريم النوري/ تصميم وتنفيذ الإضاءة: عبد الرزاق ايت باها/ تنفيذ الملابس: فاطمة حموشة/ الإدارة التقنية: رشيد الحياني / تصميم الملصق: رضى التسولي/ تنفيذ الديكور: طارق قرقوحي / تنفيذ الديكور: بدر العباسي/ المحافظة العامة: حنان مكزاري / التوثيق والاعلام: عبد الرحمان العلمي/ الإدارة الفنية : محمد العلمي/ إدارة الإنتاج: أمين المربطي/ تقني الديكور: محمد الشاح/ مساعد المخرجة عبد الفتاح عشيق.