
بنيونس عميروش
تفصح قماشات أحلام المسفر عن مساحاتها الشاسعة كإلزامية بَدَهِيَّة. لطالما ارتبطت أعمالها بالمقاسات الكبيرة التي تمنح فسحتها لاستيعاب الجسد بكامله، بحيث ينبع جوهر الفعل التشكيلي من الحيوية الكامنة في طاقة الجسد، بارتعاشه وسكناته، بإيقاعه الموزون عبر حركة اليد والذراع. هناك باستمرار ذلك التماهي الواعي مع مفاهيم الحيِّز والفضاء والفضائية Spatialité، بقدر كبير وفير من التوازن والدقة، والشعرية أيضا.
كثيرا ما تَمَثَّلْتُ أعمال أحلام المسفر باعتبارها مشاهد طبيعية Paysages، بالرغم من كونها تجريدية صرفة، كما هي في أعمالها السابقة، حيث تَتَجَمَّع التلوينات الأفقية في الأسفل لتَفْتَح ألقها على الأفق والمدى. ذلك أن ضربات الأسود والأحمر والأخضر والأزرق، مع فجوات الأبيض الرفيعة والبرّاقة، هي اختزال لجمال الطبيعة ورونقها، وما تُحْدِثُه من تفاعلات بصرية مع الفراغ الغائم في الأعلى. فلا تكون تلك اللمسات المتجاورة والمتراكبة، إلا ممدودة تمثيلا للبَسيطَة، حيث يتحاور المملوء والفارغ تبعا لترابط الأرض والفضاء الأبدي.
في هذه المجموعة الجديدة (“أزرق” bleu، قاعة دولاكروا بطنجة، يناير/ كانون الثاني- مارس/ آذار، 2024)، يأتي “الأزرق” لتتحول معه التراكيب من الأفقي إلى العمودي، بينما يبقى الهاجس الفضائي قطب الرحى في الاشتغال بالضوء، وعلى الضوء، وذلك ما يُشْرك بين السابق والآني من الأعمال، حيث تَرْتيب الطبقات (اللونية) يخضع لمِعْيار الشفافية والتنوير، لإِعْمال الدَّفْع بالمُتَواري والعميق إلى السطح، حيث اللون الأحادي Le monochrome يحمل التعدد في حد ذاته، بينما اللعب على درجات النور الدقيقة، هو ما يحكم القيمة الضوئية المسيطرة في الأخير. لا مجال هنا للصدفة والتلقائية؛ الكل محسوب قبل إجراء التنفيذ، منذ التهيئة الأولية للقماشة العذراء ! لا يتعلق الأمر بسعة البياض فقط، بقدر ما يرتبط بتدخل مادي، لاستنبات درجات من النُّتوء الموصول بالحَفْر والتَّقْعير والتَّجْويف، بمَراتِب طفيفة لا تؤثر على طبيعة السند المسطح الذي لا يغدو مسطحا في نهاية المطاف، وذلك ما يستدعي التفاعل المَلْمَسي لدى المتلقي في أحايين كثيرة، في الحال الذي نكون فيه أمام المَصبوغ المنحوت. وفي مقابل ذلك، تعمل الفنانة على خلق تَمَفْصُلات عبر شرائط خطية بيضاء، لتخَطِي الرَّتابة Monotonie وإحداث دينامية في أرجاء اللوحة من جهة، وخلق مُبادلات واقْتِسامات بين العناصر والمساحات من جهة أخرى.
إن الأزرق، في تبايناته وانعكاساته الضوئية، يُكَرِّس ثَباته دون إلغاء نسبة من الدينامية المُدَوْزنَة، أرادتها أحلام المسفر مُتَباينة ومُحْكَمة؛ ففي تراكب المستويات والأبعاد Les plans، يُغَلِّف الأزرق مساحة الأبيض وفق التَّراكُب المزدوج للمربع لخلق تَنْغيم بوليفوني، موصول بِغَلَبَة الأزرق الذي يُشيع وفرته الرصينة عبر مربعات ومستطيلات، إذ يتماهى الأزرق مع أشكاله البسيطة التي تتمظهر كمسطحات، بينما هي غير ذلك بما تحتويه من عمق وظلال ومسافات وتدرجات ضوئية في غاية الدقة. إلى جانب الأبيض، وأسود الخلفية، ينبثق الأحمر، هنا وهناك، في مواقع بعينها، من خلال أشكال عضوية مُنْصاعَة لقانون الجاذبية، فيما تحيل على الجسد، ومن ثمة على الكائن الإنساني الذي يَتَمَوْضَع، رمزيا ها هنا، في غمرة البرودة والسكينة، وفي اللّانهائي الذي يلتهمنا، حيث تنتعش الروح وتتضاعف حماسة الحِسّ وينفرج الخيال في استحضار فسحة الماء، وفسحة الأوقيانوس، وفسحة السماء الضاربة في الأعالي.
في حين، تستوقفنا لوحات أخرى تقوم على المونوكروم بدورها، كتلك المتعلقة بالرمادي وما تتضمنه من تَفْضِيَّة ضوئية، وتناغمها مع آثار السكين في تسوية الطبقة المادية التي تضفي حيوية على تزحلق السَّحاب. وتلك المُضْلِمَة؛ لوحات الحُلكة، ضمن اشتغالها المتأني حول السواد الموصول بقدر من النحت المادي الخَفيض، الذي تَتَخَلَّلُه خدود وشبه علامات (غرافيزم) محفورة لخلق درجات حية من الظلال التي تنعكس بحسبان وفق طبيعة الأجواء والإنارة، كأن ذلك يروم صنع الضوء من الظلمة ذاتها. ومن ثمة، تؤلف سلسلة الأعمال متوالية ضوئية، من النهار إلى الليل، بحسب فُروق ضئيلة ينتصر فيها الأزرق في كُمْدته وسُطوعِه، وفي عُرْيِه وسرائره.
هكذا، تبرهن أحلام المسفر، مرة أخرى، عن إصرارها على التقدم الحثيث في بحثها التشكيلي، وتجويد أسلوبها الموصوف بدرجات قصوى في الاختزال، وفي البساطة التي تكتنز حساسية فائقة في التركيب ومُعالجة اللون وتَنْقِيته. ومن خلال هذا الصفاء الباذخ، تلقي بنا في بحر الزُّرْقَة لنستعيد طاقة التامل وسؤال الوجود، فيما تضعنا داخل مُتَفَرِّقات اللون الأكثر شعبية، واستذكار التاريخي والمحلي في طبيعته، من أزرق اللّازَوَرْد مرورا بأزرق الكوبالت، إلى الأزرق النيلي المنبثق من تربتنا. وبعيدا عن جَبْرِيَّة الموضوع، تضعنا الفنانة أمام إمكانية إخضاع الفكر والتأمل للعين، في اتجاه تبني حساسية معاصرة واعية، دون تجاوز السَّنَد المُسَطَّح الذي يستوعب تصوير المُطلَق واللِّامُتناهي.
مقال صدر ايضا بجريدة العلم (الملحق الثقافي)
الرباط، يناير 2024





















































