تطل شباك غرفتها على مباني مدمرة وركام منتشر في الشوارع، والجهة الأخرى مضيئة بإضاءة خافتة. أغصان الأشجار الطويلة تتأرجح مع نسمات الهواء العليل. وهناك ضجيج المارة. حياة قائمة على ركام الحرب.
جالت بعينيها أمام الشاشة الزرقاء الممتدة إلى ما لا نهاية تراقب المارة من خلالها.
تلك الشاشة التي لجأت إليها هربًا من مسرح الحياة في خضم الواقع الصعب الذي تعيشه، كانت تشعر بالوحدة والاكتئاب. لم تعرف سوى صوت القذائف والرصاص منذ بداية حياتها، ترعرعت في ظل حرب غاشمة ومستمرة تأكل الأخضر واليابس. تشعر بالخوف والقلق على مصيرها ولا تعرف متى سينتهي ذلك الكابوس، وتتساءل: هل ستعود الحياة إلى طبيعتها مرة أخرى؟ كانت أوصالها ترجف كلما سمعت دوي القصف وصوت هدم البيوت تصدح فوق سكانها. ضاعت من الخوف والرعب.
من خلال تلك الشاشة تتأمل الوجه الآخر للحياة، تراقب العشاق والحالمين. تعبق في أنفها رائحة الكتب التي عشقتها منذ صغرها، فتجلس لساعات وساعات أمام تلك الشاشة، فهناك تجد الراحة والسلام الذي تفتقده في واقعها المرير. مرة ترقص على أنغام الموسيقى، وأحيانًا تراقب بتهوفن وهو يدون أولى نوتاته الموسيقية، وتتناقش تارة مع زرادشت قبل أن يتكلم كما يحلو له، وتقرأ أنطوان تشيخوف لتعيش مع قصصه أحلى حياة كعصفورة تحلق من شجرة إلى شجرة تستنشق عبير الزهور.
عبر الأسلاك الباردة تشعر بأنها قادرة على التحكم في مصيرها وأنها أكثر أمنًا وسعادة مما هي عليه في الواقع. وتشعر وكأنه مأوى آمن من وحشية الحرب الحقيقية في واقع مؤلم. اضطرت إلى الاكتفاء بالأحلام فقط. كانت تتمسك بالحلم مثلما يتمسك الرضيع بأمه.
استطاعت التسلل عبر الأسلاك الباردة للكمبيوتر. فبثت فيها الحياة من جديد رغم الركام الذي يحوط بها. رغم آلاف الكيلو مترات التي تفصل بينهما، استطاعت أن تعيش الجانب المضيء من الحياة، بينما هي تعيش على ركام حلم هدمته الحرب. إلا إنه استطاع التسلل إلى كل تفاصيل حياتها. لوحت له بابتسامة ومضت تقول: ربما لا تتحقق أحلامي.
معه عرفت كيف يستطيع المرء أن يعيش حياة إنسانية، هادئة، آمنة خالية من أي قلق أو خوف من الذي سيحدث عما قريب.
معه عرفت كيف يعيش المرء في بلد مدمرة ويجلس فوق كل ذاك الحطام ويقول كل لحظة: أهلا بالحياة لعلني بعد قليل لم أكن من الأحياء.
في يوم، كانت تسهر معه عبر الأسلاك الباردة يتبادلان الحديث والنقاش يحتدم بينهما، وضحكات متبادلة تارة أخرى..
وفجأة ظهر صوت وضوء قوي. لم تنظر خلفها ولم تغلق الجهاز ولم تجب على أسئلته حول تلك الأصوات..
صوت آخر قوي..
تهدم أمامه كل شيء. وهو ينظر عبر شاشة الكمبيوتر التي ما تزال تعرض صورته والتي تشهد على احتضار آخر حلم لها ببلاد تسكنها.