.

النقد عملتنا : بين المادية الرمزية

النقد عملتنا : بين المادية الرمزية

مصطفى الزِّيـن

النقد الأدبي، وغير الأدبي – بل كل نقد لمختلف النصوص والخطابات،بما فيها النقد نفسه- إنما هو “مسؤولية”جليلة، يجب على كل “أمة “، من الأمم ، أن تُعدَّ لها الرجال، والمؤسسات..؛ بدءً من المدرسة والتربية والتعليم ، والمناهج والبرامج ، التي يتعين أن يكون وَكْدَها تربيةُ وتكوين ملكة النقد، ضدا على التلقين والاجترار والتقديس،أو والتدنيس..
وإن تأثيل وتأصيل مصطلح النقد ، في العربية، من شأنه أن يجلِّي هذه المسؤولية، والمهمة والوظيفة والدور ؛ التي، يجب أن يضطلع بها ،جميعا ، هذا النقد.
أليس النقد- في حقيقة اللفظ،قبل مجازه- هو العُمْلة؟؛ العملة التي يتعامل بها الأفراد والجماعات، داخل سوق تداولي وطنية أو قومية، ويتعاملون بها ، باعتبارهم أمةً، مع الأمم الأخرى، في سوق التداول الأممي..؟!
والعملة/النقد،إنما هي نوعان اثنان متكاملان: عملة مادية(كالأورو، أو الدولار ،أو الين، أو الجنيه الاسترليني..أو الدرهم أو الدينار او الليرة، أو الأوقية..)..
أما النوع الثاني من العملة، فهو العملة الرمزية، التي لا تقل أهمية أبدا، عن المادية المالية، إن لم تفقها؛ هي العملة الفكرية الثقافية الحضارية ، من”النصوص” المختلفة : شعرا،وسردا ،وعلما ،وفلسفة وفكرا ، وفنا..، مما تنتجه الأمة وتتداوله داخليا، وتريد أن تبادل ، وتقايض، به الأمم الأخرى، وتفرض قيمته في سوق القيم العالمية..
أريت أمة من الأمم، تعتلي عملتها المالية مراتب سلم القيم عالميا، دون أن يكون لعملتها الرمزية ما يوازي ذلك أو يفوقه، في التداول العلمي والفكري والأدبي والفني؟ أو ترى أمة تفرض عملتها الرمزية دون أن تفرض ما يوازيها من عملتها المادية؟؛ فهذه أوروپا، وهذه أمريكا، وهذه اليابان،أو الصين،أو الهند..؛ أمم تعتلي مراتب سوق التداول بالعملتين معا: المالية المادية، والثقافية الحضارية الرمزية..
وكذلك كان شأن الأمة العربية الاسلامية؛ علت واعتلت ،مذ فرضت عملتيها معا على رأس سوق القيم، منذ عهد عبد الملك بن مروان الأموي،الذي أسس دارا للسكة، فأحل الدرهم العربي ، محل العملة – الدراخما- البيزنطية التي كانت رائجة قبل الدرهم العربي، فساد الدرهم ، وسادت معه العربية ،بعلومها وفكرها وفنونها وثقافتها وحضارتها شرقا وغربا..
ولا تتقدم العملة الرمزية للأمة، مهما تكن، إلا من خلال الصيارفة المختصين ؛ أي “النقاد”، سواء للنصوص والبحوث والدراسات العلمية، أو الفكرية ، أو الفلسفية، أو الأدبية، أو الفنية..؛ وفي المعمار والخط والتمثيل( =النحت)،وفي الشعر والأدب والموسيقا، واللغة ، أو اللسان،أيضا، ونقد النقد، ونقد نقد النقد..
والنقاد هم من يميزون الصحيح من الزائف.وهم من يصنفون الطبقات والفئات من هذه الأوراق النقدية الرمزية. ويؤشرون على قيمها، فيمهرون و يُظهِّرون الصكوك النقدية الرمزية؛ في سوق التداول الداخلية، وفي سوق التداول العالمية..

ولا تكتمل مهمة النقاد، في كل المجالات، وأنماط الخطاب وأصنافه، إلا بمسؤولية أخرى ، لا تقل جلالا ؛ ألا وهي مسؤولية الترجمة : ترجمة نصوص الأمم الأخرى إلى اللغة الوطنية،أو القومية،لتكون بمثابة امتلاك لمخزون من العملة الصعبة الرمزية،ولتستفيد منها العملة الوطنية الذاتية؛ وكذا، ترجمة النصوص التي تنتجها الأمة إلى لغات الأمم الأخرى لتتداولها ، أو تتداول بها..؛فما كانت العربية، والحضارة العربية الإسلامية لتسودا لقرون عددا ،لولا مبادرة المأون العباسي، أيضا، لتأسيس دار الترجمة..
فشأن نقودنا الرمزية- فكرا، وعلما ، وأدبا وشعرا،وفنا – متردِّ متراجعٌ، شأن عملتنا المادية ؛ شأنَ وحالَ ومستوى الترجمة ومؤسساتها عندنا، وشأنَ معدلات القراءة وتداول الكتاب. ولهذا ، فنحن تحت سلطتي ورحمتي “صندوقي النقد الدوليين” الغربيين:المادي،والرمزي. ولهذا، تعاني إبداعاتنا وإنتاجاتنا ونقودنا، ليس في مجال نقد الشعر وحده، وإنما من ضعف وتبعية النقد الفلسفي ،والنقد السياسي، والديني، والاجتماعي ، والأدبي ، والمسرحي، والسنمائي، والتشكيلي …
ولا سبيل إلى الخروج من هذه التبعية إلا بتنمية مستدامة حقيقية، تعول على الإنسان ، وعلى العقل والعقلانية،بدءً من التربية والتعليم؛ من البيت والمدرسة والإعلام، وبناء مؤسسات النقد الوطني/ القومي
———–

*هذه المقالة، كنت كتبتها، قبل أربع سنوات ، تفاعلا وتعليقا على مقالة للصديق الشاعر الناقد الدكتور محمد بودويك :” مسؤولية النقد الادبي حيال ما يكتب من شعر وسرد”؛ كان نشرها بتاريخ الأربعاء 12فبراير2020، ضمن زاويته الأسبوعية (سوانح)،بالملحق الأسبوعي لجريدة (الأحداث المغربية).

مستجدات
error: جريدة أرت بريس