.

داني زوهير : بين البياض واللمسة الأولى .. طقوس ولادة لوحة

داني زوهير : بين البياض واللمسة الأولى .. طقوس ولادة لوحة

ولادة لوحة / بقلم: داني زوهير – باريس
إن أصعب وقت لتلوين اللوحة ورسمها هو البدء.
مساحة اللوحة البيضاء تضعني في حيرة وتردد يدومان أيامًا. إنها بساطة لم تمس بعد، تدفعني للتساؤل: هل الأفضل أن أتركها كما هي، عذراء، وأعلقها على الحائط لأتأملها وأتمتع بوضوحها؟ أم أن أتناول فرشاة ملوثة بالأحمر، مثلًا، وألطخها بعد أن كانت نقية لم تمسها يد إنسان؟

هذه الحالة تدوم أيامًا. كلما دخلت مرسمي، التفت إليها فأراها كما كانت البارحة، وقبلها. تنير المرسم ببياضها ونقائها. تمر أيام قبل أن أتقدم منها لأبدأ التلوين. أضع لطخة ملونة، ثم أجلس طويلاً أحدّق فيها. لقد تغيرت فور دخول اللون إليها.

أصبح للوحة شكل ومعنى، إذ تغيّر بياضها الطاهر. في مساحة الأبيض الآن شكل ولون، وهذا اللون ينادي لونًا وشكلًا آخرين. أختارهما وأضيفهما، ثم أبحث عن الأبيض فلا أجده، فقد طغت عليه الألوان وغطته.

هنا تبدأ مرحلة جديدة: التأمل الطويل.
البياض – أعني أصل اللوحة البيضاء – لم يخلق في نفسي وسواسًا أو ندمًا، بل كنت أعتبرها مكتملة في بياضها، الذي يجعلني أتخيل فيه الصحراء والبحر والسماء. أما الآن، فقد بدأت مرحلة النقد الذاتي، واكتشاف ما وضعته من ألوان وأشكال.

أتساءل: إلى أين سأصل؟ هل انتهيت، أم ابتدأت للتو؟ أعود إلى ألواني، أُلغي لونًا وأضع آخر، وأُغيّر شكلًا بآخر. أبتعد عن اللوحة، ثم أعود، أضعها على الأرض، ثم أعيدها إلى مكانها.

اللوحة تتنفس
أمزج لونًا بلون. تبدأ اللوحة بالتنفس قليلًا. أعود لإلغاء لون، وكأنني أبحث عن بساطة رأيتها في اللوحة البيضاء. لكنني أشعر الآن أنني أعمل بجهد، وأن في رأسي وإحساسي حوارات وأسئلة.

تأخذ الألوان دورها، وتقترب من بعضها، باحثة عن انسجام.
المسألة بسيطة: أن تكتب أسطرًا تمثل أشهرًا من الرسم والتلوين. عندما تتعب مني اللوحة، أتركها أيامًا، أو أسابيع، أو شهورًا، ومرات أعود إليها بعد سنوات.

قلت إن الألوان تقترب وتنسجم. من السهل أن أقول ذلك، لكن بعد النظر مطولًا، تتغير نظرتي.
أرى في الألوان عكس الانسجام. أهيئ ألواني، آخذ فرشاتي بلا رغبة، بلا جرأة للمس اللوحة مجددًا.

أبتعد عنها. أترك مكاني، وأخرج من المرسم.
إلى أين؟ لا أدري.
مرات أروح لملاقاة أشخاص لا صلة لهم بالفن، بعيدين عن فهمه.

هذا ما يزعجني… وأحيانًا يريحني.
اعتدت أن أجلس مع أناس لا يهمهم من الفن سوى كلمة “الفن”.
وأكثرهم يعتقد أن كل لوحة أو رسم داخل إطار هو عمل فني ذو قيمة.

هذا ليس رأيي فقط، بل حقيقة.
وبعد وقت – أيام أو أسابيع أو شهور – أكون قد رسمت لوحة أو أكثر. أعود إلى تلك الأولى التي أبعدتها عن ناظري. أنظر إليها من جديد، بعد زمن طويل، وكأنني أراها للمرة الأولى.

تحررت مني، وأصبح لها حياتها.
تحكي لمن يحاورها، وترفض من يرفضها، وتتجمل في عين من يراها جميلة، ولا تكترث لمن لا يكترث بها.
وهكذا، فالعمل الفني له مولده، وله حياته، مديدة كانت أو قصيرة.

هناك أعمال كبرى تولد وتبقى، تتجدد كل يوم.
وهناك أعمال تولد ميتة.

لست أقول جديدًا حين أقول: “إن وراء العمل الفني فنانًا”.
الإنسان لا يختار أن يكون فنانًا أو تاجرًا أو بائع فاكهة أو لصًا.
هذا مكتوب.
لكل إنسان موهبة اختيرت له، وهو بريء من ذلك.

أكتب هذا، لكني لست متأكدًا مما أقول، ولا واثقًا.
لكن ماذا أفعل؟
أكتب وكأن الكلمات هي التي تجلب الأفكار، وأنا لا أفعل سوى خطّها على هذه الصفحات.
ليس مهمًا…

هكذا تولد الأفكار والكلمات، ولا انفصال بينهما.
الأولى تكمل الثانية، وتغمران الأوراق، وتخلقان آلاف الأحرف المتشابكة.
حتى إن القلم يشتد خفيًا على الورق، يكاد ينفجر.

فكيف أعود للكلام عن اللوحة؟
وهل الكلمات تصنع عملًا فنيًا؟

أعتقد… لا.
الكلمة تقول كلمة، والفن يصنع فنًا.
لذلك، سأقف الآن عن الكتابة… بل سأكمل.

وهل هي إرادتي التي توقفني عن لصق الحرف بالحرف؟
ليصير كلمة، يصير لها معنى…
لا يقدّم ولا يؤخر… بل يقدّم.

أما إلى أين؟ فلست أدري.
ويؤخر؟ نعم، ممكن.
تؤخر الكلمة، عندما تعني ما لا يُعنى.

آه… ومتى كانت الكلمات تحمل معنى؟

أعتقد أن البارحة قد مضى مع الليل،
ثم انتصف الليل مع النهار،
والشمس،
والقمر،
والخريف الربيعي…

كل هذه الحالات الطبيعية، تناديني لأخرج من مرسمي وأوراقي،
وأتسلل من بين الأسطر والأحرف،
وأنطلق…
لملاقاة الهدوء والسكون.

#ولادة_اللوحة
#الفن_التشكيلي
#إبداع_بصري
#تأمل_فني
#مرسم_الفنان
#اللوحة_البيضاء
#حوار_الألوان
#الفنان_وداخلـه
#فن_من_باريس
#داني_زوهير
#لوحة_تتنفس
#اللون_والشكل
#تجربة_إبداعية
#مشاعر_فنية
#الفن_روح

مستجدات
error: جريدة أرت بريس