.

“لآلئ على بريق التجلي” للشاعرة أمنية كانوني من البوح إلى تشريح القيم …من الكتابة إلى حيازة العالم

“لآلئ على بريق التجلي” للشاعرة أمنية كانوني من البوح إلى تشريح القيم …من الكتابة إلى حيازة العالم
  • د. عبد العزيز بنار،  / كاتب وناقد وأستاذ بجامعة شعيب الدكالي، المغرب

بعض الشعراء يؤَمنون مسارهم الإبداعي برؤى خاصة تجعل قصائدهم ممهورة بتشكيل جمالي متفرد، إذ أن حرص المبدع على هذا الأفق المعرفي والفني هو وجه من وجوه الأصالة. في هذا السياق تؤمن الشاعرة أمنية كانوني بأن الجديد لا يأتي إلا من القديم، وأن القصيدة هي نداء الذات الأهم في هذا الكون الساقط، وجسرها لفهم حقيقة الوجود الإنساني.

تكتب الشاعرة أمنية كانوني في باكورتها الشعرية الأولى( لآلئ على بريق التجلي،جامعة المبدعين المغاربة، 2025) بشفافية عالية، وبنبض خاشع مشدود إلى ثقافة إبداعية يتعامد فيها الولع بالأعراف الجمالية القديمة، والانشداد إلى كل ما يتكشف للقلب من أنوار، ترفع حجاب الغفلة عن الفؤاد بالتجلي والتحلي والتخلي. قد نسيئ فهم هذه التجربة الشعرية بالوقوف عند قصيدة واحدة أو بيت من أبيات الديوان دون النظر إلى جماع ما تخلق في هذا الديوان من رؤى وسمات جمالية  تساق عبر نصوص مجللة بتعاضد خلاق يين الشكل والدلالة، الذات والعالم.

تعيد الشاعرة المغربية أمنية كانوني، في نصوص هذا المنجز تأمل الوجود وهو يتحرك في إيقاع نصوص تجمع بين رشاقة الأسلوب وذخيرة لغوية تراثية تدفع القارئ إلى الإحساس بأنالوجود الذي من الممكن أن يكون موجودا هو اللغةعلى حد تعبير جادامير. يمكن قراءة قصائد الديوان انطلاقا من قصيدين اثنتينلآلئص 61، ولألأة الشعرص 63،إذ  تسعفان في فهم  كمياء النصوص الأخرى واكتشاف العناصر التي توحدها في نسق يمدنا بمديات التأويل. تجذر  القصيدتان والعنوان ميلا صوفيا يتقصد إيقاظ العالم شعرا عبر مجاهدة تساعد، حسب طرق المتصوفة، على إظهار أنواع الحق على قلب العارف، وتبديد ظلمات الليل ، وكأن الشاعرة تعي أن هذه المجاهدة والتجلي، والكتابة ستتنزل منزلة النور الذي يبدد حجاب الغفلة، وينقي القلب، ويزين النفس بصفات الجمال وقيم روحية سامية، كما أن القصائد التي شيدت  الفضاء النصي لهذا الديوان تسوق صورا كثيرة لهذا التجلي، ومنها التجلي الذاتي، والصفاتي، والأفعالي.

اثنتان وسبعون قصيدة من قصائد الديوان، أقصرها يتشكل من ثلاثة أسطررسول الحبص41، وسيد الزمنص 42، تتحلق كلها حول أصل واحد، وهو أنها بمثابة بوح وتأمل في سيرة الكائن البشري وحالاته الذاتية، هذا البوح يتقصد الدفاع عن القيم تارة وإدانة نقيضها تارة أخرى. فما تراه الشاعرة بالعين تراه بالفؤاد والبصيرة، وماتراه بالروح تراه بالعلم، وهذا ما يجعل من القصائد انشغالا متناميا بالوصل الخلاق بين الفكر واللغة والروح، وهو وصل مشدود إلى شغف بالكتابة والقلق والشك والأسئلة الوجودية الحارقة،تقول الشاعرة:

فيمقلتيتدورأفلاكالرؤىوالحرف طفلي والقصيدة توهجي( ص25).

تتخلق في رحم النصوص الشعرية تيمات كثيرة، منها الاغتراب والوجع  والحنين إلى فردوس مفقود يتراءى فيه بريق  الطفولة والإخلاص إلى الأرض، والحقول والأحلام،.. ولم تكتف الشاعرة بهذا الحنين، بل تخلل هذا البوح اعتراف بحب الأم والوطن ومدح خير البرية  واستحضار القيم النبيلة التي تسمو بالأنا والذات الإنسانية عموما، كما أتت بعض القصائد على شكل تأملات وجودية ونفحات صوفية (صوت الوجود ص17)، إذ تعود بالسؤال إلى الأصل، وسوق عبر مجاورة واضحة بين البوح بما تفيض به الروح من مشاعر  وبين الدفع بالقيم إلى مشرحة النقد والمساءلة. فالشاعرة أمنية كانوني تجعل العقل في مواجهة مباشرة للجهل، والأنا في مقابل الآخر، الصدق في مقابل زيف العلاقات الإنسانية،  ورثاء القيم في مقابل إدانة أفعال إنسانية اختارت الشاعرة، في بعض الأسيقة، صيغ الأمر للتعبير عنها ( اخلع، استعمل، سر، اسق….).

تضع الشاعرة مسافة بينها وبين تاريخها الشخصي أحيانا،إذ تحضن العالم بالعين تارة والقلب تارات أخرى. وترى أن الرؤية بالعين سر  يدركه الفؤاد، وأن البصر بصيرة، وأن الفكر  مرآة تعكس نسبية حقائق الكون، وترفع مقام الوجود الإنساني إلى آفاق يجللها المجد والحرية والكبرياء والكرامة والسلم و الافتخار بالعروبة. تحيا الشاعرة شعرا، تدعو إلى السلم والإخاء، تناجي بابتهالات روحية كي تسعيد البيوت دفئها وسكينتها، إذ بالمحبة تحاول الشاعرة رسم طريق لحماية العالم وإعادة بناء الحياة(سلاما يا دنيا المحبة،ص30)، وسيرة تكوين الانسان، بهواجسها وانكساراتها وانتظاراتها، وصراعاتها وأوهامها.. تقول:

قد كنت وحدي في الدجى متأملا…..   أن تستفيق الأرض من أعذارها

ما كل من يمشي يعي درب الهدىبل من سقى الأرواح ماء خيارها

شعري صلاتي والحروف مواطني….. قدخطتهاالأرواحماءخيارها

أنا لست إلا فكرة قد أشرقت ….. في الكون كي تمحو دجى أحجارها (ص33)

مايهمين على هذه القصائد هو  التركيز على الذات بوصفها عاملا أساس في تشغيل اللغة وبناء صور شعرية واستعارية تواكب الغرض والموقف الشعرين. هذه الصور الاستعارية تكتسب درجة من درجات الوجدانية، لأنها تربط الذات بمختلف الحالات التعبيرية، تتراسل فيها الحواس للدلالة على حقول اجتماعية وأدبية ودينية( في عيني ظل حكاية، أرى كل قلب في الهوى فيه نغمة، روحي سحابة، الفكر يغرق،  صاح الدجى.. لآلئ ابتسمت، تكحل جفان السهاد…)، علاوة على ذلك تساعد هذه الصورة الاستعارية على تحقيق تشاكل دلالي يقوم أحيانا على الإثبات وأحيانا على النفي والتناقض ( الطهر/الزيف، امشي وحيدة/ لا أخالطهم،

هذا التوق إلى المدينة الفاضلة الذي تتقصده الكتابة جمع بين الحرص على التمسك بتقاليد النص الشعري القديم والنفس النهضوي، من خلال الوفاء للنموذج القديم ، بناء ومعجما وتركيبا وإيقاعا، تنهي القصائد بحكمة أو دعاء، وتعتمد لغة تراثية، واستعارات تربط الذات بالفكر والوجود، تحاول قدر الإمكان الحرص على أوزان الشعر وخلق تجانس صوتي عبر آليتي التكرار والتوازي.

تأسيسا على ما سبق، تتجلى أصالة هذا العمل في الانحياز إلى الشكل القديم، والوصل بين قيم أصيلة وتيمات جديدة وكأنها بهذا البوح تبحث عن المشترك فينا.إذ تقول ملخصة هذا الرحلة: هذا وجودي ، كالسؤال معلق،والروح تسري كالندى المتجدد (ص16).

مستجدات
error: جريدة أرت بريس