في حلقة جديدة من سلسلة “ضيوف مع خلدون”، نلتقي اليوم بعالم مغربي بارز، سطع اسمه في مجالات الطاقة واستقرار الأنظمة الكهربائية، إنه الدكتور محمد بلخياط، الأستاذ بجامعة جورج واشنطن، والخبير الرئيسي في شركة “هنتنغتون إنغالز”. رحلة علمية امتدت لأكثر من 25 عامًا، حمل خلالها العلم المغربي إلى مصاف العالمية، حيث ساهمت أبحاثه في تطوير أنظمة الطاقة المستخدمة في الطائرات الحديثة مثل بوينغ 787، والقطارات السريعة في الصين، فضلًا عن أنظمة الطاقة المتجددة.
من مكناس، حيث نشأ وتلقى تعليمه الأولي، إلى الولايات المتحدة، حيث حصل على درجة الدكتوراه من جامعة بيردو، كان الطريق محفوفًا بالتحديات، لكنه شق طريقه بإصرار وعزيمة، مدفوعًا بشغف العلم ودعم أسرته. في هذا الحوار، سنتعرف على مسيرته الأكاديمية، وأبرز التحديات التي واجهها، ودوره في دعم البحث العلمي، كما سنتحدث عن رؤيته لمستقبل الطاقة والذكاء الاصطناعي، وإمكانيات التعاون العلمي بين الجامعات المغربية والعالمية.
فما هي نصيحته للطلاب المغاربة الطموحين؟ وكيف يرى دور الكفاءات المغربية في الخارج لدعم التنمية في المغرب؟ أسئلة وغيرها يجيب عنها الدكتور بلخياط في هذا الحوار الشيّق. تابعونا!
حوار بوشيب خلدون مع العالم و الدكتور محمد بلخياط، الأستاذ بجامعة جورج واشنطن، والخبير الرئيسي في شركة “هنتنغتون إنغالز”
1. بداية، نود أن نتعرف على مسيرتكم الأكاديمية والمهنية، وكيف كانت رحلتكم من المغرب إلى جامعة جورج واشنطن؟
ـ أشكركم على هذه الدعوة، فمسيرتي الهندسية والأكاديمية متواضعة، ولا أظنها جديرة بالملاحظة أو النشر. رحلتي تشبه العديد من مغاربة العالم الذين غرس آباؤهم فيهم قيمة العلم وسعوا إليه. ومع ذلك، آمل أن تُلهم تجربتي الطلبة المغاربة لتحقيق طموحاتهم.
كانت والدتي، رحمها الله، معلمةً تشجعني دائمًا على المثابرة، بينما كان والدي صارمًا بشأن النجاح في المدرسة، فوفّر لي، رغم إمكانياته المحدودة، مدرسًا خاصًا كان صديقًا للعائلة، كما اشترى موسوعة أثرت فيّ كثيرًا.
ولدتُ في العاصمة الإسماعيلية، ودرست بثانوية مولاي إسماعيل بمكناس، حيث واجهت تحديات في الرياضيات والعلوم. عندما أخبرت أستاذي برغبتي في التخصص في الرياضيات والتكنولوجيا، ابتسم قائلاً: “ستبني خيمة وتبقى هناك!” كنت طالبًا متوسط المستوى، ولم يكن يعتقد أنني سأنجح. لكنني درست بجد، وحصلت على شهادة البكالوريا في الرياضيات والتكنولوجيا عام 1980، وهو أحد أصعب التخصصات آنذاك، حيث جمع بين الدروس النظرية والتطبيق العملي باستخدام الآلات الصناعية. كانت معظم هيئة التدريس فرنسية، ما منحني تجربة قيمة عززت ثقتي في مسيرتي الهندسية.
بعدها، التحقت بالمدرسة العليا للمعلمين في الرباط ضمن برنامج جديد لإعداد معلمي المجالات التقنية، لكنه افتقر إلى التدريب العملي بسبب ضعف التمويل. خلال تلك الفترة، حصلت على تأشيرة طالب للدراسة في الولايات المتحدة مقابل 1000 درهم، وبفضل دعم عائلتي، غادرتُ عام 1981 ومعي 4000 دولار، نصفها كان قرضًا من صديق والدي.
في السنوات الأولى بأمريكا، عملتُ في مطاعم وفنادق ومخابز لدعم دراستي، حتى حصلتُ على شهادتي البكالوريوس والماجستير في الهندسة الكهربائية من جامعة ساوث كارولينا. عملت لفترة وجيزة في مختبرات “سافانا ريفر سايت” النووية، حيث كنت مسؤولًا عن إعداد التقارير الشهرية لاستهلاك الطاقة. بالمناسبة، في هذا المختبر اكتُشف جسيم النيوترينو، وهو أصغر جسيم تم رصده، إذ يمكنه عبور كوكب بأكمله دون أن يصطدم بأي شيء.
لاحقًا، درّستُ في كلية الدراسات العليا البحرية في مونتيري، كاليفورنيا، حيث كنت أقدم دروسًا لضباط البحرية، مما منحني خبرة كبيرة في تدريس الهندسة الكهربائية والرياضيات التطبيقية. وكما يُقال، أفضل طريقة لتعلم شيء هي تدريسه.
بعدها، انضممت إلى مختبر البحرية الأمريكية في واشنطن لإجراء أبحاث حول إلكترونيات الطاقة للسفن والغواصات، حيث ركزتُ على تطوير نماذج محاكاة واستقرار الأنظمة الإلكترونية كثيفة الطاقة. نصحني زملائي بعدم الخوض في هذه المشكلة لاستحالة حلها، لكنني قبلتُ التحدي ونجحتُ في إيجاد حلول تم تطبيقها فعليًا على السفن، مما شجعني على متابعة الدكتوراه في جامعة بيردو، الرائدة في هذا المجال.
أثناء عملي في المختبر، أتيحت لي فرصة التدريس في الأكاديمية البحرية بأنابوليس، التي تخرج منها ألبرت ميكلسون، أول أمريكي حاصل على نوبل بفضل أبحاثه حول سرعة الضوء، والتي مهدت لنظرية النسبية لأينشتاين.
حصلت على الدكتوراه من جامعة بيردو عام 1997، حيث تخرج منها أيضًا نيل أرمسترونغ و27 رائد فضاء آخر. في أطروحتي، وسّعت نطاق حلول استقرار الأنظمة الإلكترونية، ورغم أن عملي كان نظريًا، فقد تعاونت مع جامعات أخرى لاختباره عمليًا، ما أسفر عن عدة منشورات علمية وبراءات اختراع.
بعد التخرج، تلقيتُ عرضًا من شركة “نيوبورت نيوز” لبناء السفن البحرية، التي تضم 4000 مهندس و40 ألف موظف، وأصروا على انضمامي إليهم حتى قبلتُ العمل لديهم. بقيتُ في الشركة قرابة 25 عامًا، حتى تقاعدت كمهندس رئيسي عام 2022.
خلال مسيرتي، ساهمتُ عام 2014 في تطوير برنامج ماجستير لأنظمة طاقة السفن بالتعاون مع جامعة جورج واشنطن، حيث طُلب مني التدريس هناك عام 2015، وما زلت أُدرّس فيها حتى اليوم.
2. كيف يقضي الدكتور محمد بلخياط شهر رمضان في المهجر؟ وهل هناك طقوس خاصة تحافظون عليها رغم بعدكم عن الوطن؟
أتذكر قول جدي، رحمه الله: “العارفون بالله يفرحون عند دخول رمضان ويبكون عند خروجه.” أصوم، أصلي، أتصدق، وأطلب من عائلتي أن تفعل ذلك. كما نقيم إفطارات للأصدقاء والعائلة ما أمكن. إلى جانب كل ذلك، أُدرّس عن بُعد وأقدم بعض الاستشارات الهندسية.
3. تخصصكم في استقرار الأنظمة الكهربائية، وساهمت نتائج أطروحتكم في تطوير أنظمة الطائرات الحديثة والقطارات والطاقة المتجددة. هل يمكنكم تبسيط هذه الإسهامات لغير المتخصصين؟
هذا صحيح، فقد كانت هذه الأبحاث موجهة في البداية إلى السفن، لكن نظرًا لأن الأنظمة الأخرى تعتمد على تقنيات كهربائية مشابهة، فقد استعان باحثون آخرون بنتائجي لتطبيقها على ما ذكرتموه. الفكرة الأساسية بسيطة جدًا، وتتعلق بمطابقة المعاوقة أو المقاومة الكهربائية. فلكي يكون النظام مستقرًا، يجب أن تتطابق معاوقة المولد الكهربائي مع معاوقة الحمل. كانت هذه المشكلة قد حُلّت سابقًا لأنظمة التيار المستمر، لكنها لم تكن قد طُبقت على أنظمة التيار المتردد، وهو ما تطلب اللجوء إلى رياضيات متقدمة. وبفضل الله، تمكنتُ من إيجاد الحل المناسب.
للتوضيح بمثال بسيط، إذا أردنا تسليط الضوء من وسط زجاجي إلى وسط آخر دون تشويش، فيجب أن يكون للوسطين نفس الخصائص البصرية. بعض هذه الخصائص هي ما اقترحته للأنظمة الكهربائية التي عملتُ عليها.
4. كيف تشعرون عندما ترون باحثين من مختلف أنحاء العالم يعتمدون على نتائج أطروحتكم في استقرار الأنظمة الكهربائية، خاصة في مجالات الطائرات الحديثة والقطارات والطاقة المتجددة؟ وما هي أبرز التحديات التي واجهتموها أثناء تطوير هذه الأبحاث؟
بالطبع، إنه شعور رائع أن أرى أبحاثي تُستخدم وتُطور حتى بعد 25 عامًا. لقد تمت دعوتي عدة مرات إلى جامعة النرويج التقنية لمراجعة أطروحات الدكتوراه في هذا المجال، كما ألقيت محاضرات رئيسية في مؤتمرات معهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات.
أما التحدي الأكبر أثناء تطوير أطروحتي، فكان تحقيق التوازن بين الدراسة والعمل والأسرة. فقد رُزقنا بطفلنا الثاني خلال فترة الدكتوراه، وكنتُ مضطرًا للعمل لإعالة أسرتي، مما دفعني إلى إجراء أبحاث إضافية في مجالات هندسية أخرى. لحسن الحظ، كانت زوجتي داعمة جدًا، بل كانت تعمل كأستاذة في الوقت نفسه، ولولا دعمها لما تمكنتُ من النجاح.
5. عملتم كمهندس أبحاث في مختبرات سانديا الوطنية، ما هي أبرز الحلول المبتكرة التي عملتم عليها في مجال أنظمة الطاقة؟
لم أعمل في سانديا، لكنني زرتها للعمل على مشاريع متعلقة بالطاقة المتجددة وتطبيقات استقرار الأنظمة الكهربائية. لقد تعاونت مع العديد من المختبرات الوطنية في الولايات المتحدة، وكانت أهم مساهماتي في نمذجة ومحاكاة أنظمة الطاقة المتقدمة. بعض هذه الأنظمة تعتمد على أنظمة تحكم معقدة تُستخدم في مصادر طاقة متنوعة، من النووية والاحتراقية إلى الشمسية وطاقة الرياح. على سبيل المثال، بعض هذه الأنظمة تحتوي على برامج تحكم ضخمة، مما يجعل محاكاتها أمرًا معقدًا للغاية.
6. المغرب يُعتبر حاليًا من بين الدول التي أخذت توجهًا قويًا نحو الاستثمار في الطاقات المتجددة، كيف يمكن لكم من خلال خبرتكم الإسهام في هذا المجال، إضافة إلى أنظمة الطائرات؟ وهل لديكم تصور لمشاريع بحثية أو شراكات أكاديمية بين جامعة جورج واشنطن وجامعات مغربية لتعزيز البحث العلمي في هذه المجالات؟
لدي معرفة جيدة بالمشاريع الكبرى في المغرب من خلال الشبكة الأمريكية المغربية، التي تنظم لقاءات ومؤتمرات أشارك فيها بانتظام. حاليًا، لا أشارك مباشرة في أي مشروع داخل المغرب، لكنني أستطيع تقديم إسهامات في مجال استقرار الأنظمة الكهربائية، بالإضافة إلى نمذجة الأنظمة الجديدة التي تُدرس في المغرب، مثل الطاقة النووية، وإنتاج الكهرباء والهيدروجين، والطاقات المتجددة المختلفة.
أما فيما يتعلق بالشراكات الأكاديمية، فقد وقّعنا اتفاقية مع الجامعة الأورومتوسطية في فاس لإطلاق برنامج ماجستير في الأمن السيبراني، من المقرر أن يبدأ في سبتمبر 2025. يُعد الأمن السيبراني بالغ الأهمية، خاصة فيما يتعلق بالبنية التحتية للطاقة واستقرارها.
7. بالنسبة لمغاربة العالم، كيف ترون دور الكفاءات المغربية في الخارج في دعم النهضة التي يشهدها المغرب، خاصة مع تنظيمه لكأس إفريقيا 2025 وكأس العالم 2030؟
أعتقد أن للكفاءات المغربية في الخارج، خاصة في الولايات المتحدة، دورًا مهمًا جدًا في تنمية المغرب وتحقيق رؤيته لعام 2030. لكن للأسف، لا أرى أنهم منخرطون بالشكل الكافي. ولتعزيز مشاركتهم، ينبغي على السفارات تنظيم لقاءات دورية، سواء حضوريًا أو عبر الإنترنت، لتعريفهم بأحدث التطورات في المغرب، وتوفير معلومات حول الفرص الاستثمارية. يمكن أيضًا إشراك مديري الاستثمار لعقد محاضرات افتراضية لشرح الفرص المتاحة في مختلف المجالات.
8. ما هي أهم التحديات التي تواجه الطلاب المغاربة الراغبين في الالتحاق بجامعات عالمية مرموقة، وكيف يمكن تجاوزها؟
من الناحية الأكاديمية، لا يواجه الطلاب المغاربة مشكلات كبيرة، لكن من الناحية المالية، يُشكل التمويل عقبة رئيسية. نصيحتي هي الاستعداد الجيد قبل التقديم، خاصة عبر تحسين مستوى اللغة الإنجليزية واجتياز اختبارات مثل التوفل، ما يمنحهم فرصة أفضل للحصول على منح دراسية. كما يمكنهم الاستفادة من الخدمات المتخصصة في المغرب لمساعدتهم في التقديم على الجامعات، رغم تكلفتها، فهي استثمار جيد. يجب أيضًا التفكير في الدراسة بالصين، حيث بات الابتكار متجهًا نحو الشرق.
9. كيف تقارنون بين بيئات البحث العلمي في الولايات المتحدة وقطر والمغرب؟
معظم الأبحاث العالمية تُنشر بالإنجليزية، بينما لا تزال الأبحاث في المغرب تُجرى غالبًا بالفرنسية، مما يحد من انتشارها عالميًا. كما أن تمويل البحث العلمي في المغرب كان ضعيفًا في السابق، لكنه بدأ يتحسن بفضل مبادرات مثل المكتب الشريف للفوسفات. بالإضافة إلى ذلك، تحتاج الجامعات المغربية إلى استقلالية أكبر، إذ يُعيق التسلسل الإداري المفرط الابتكار. هذا ما يميز البحث في الولايات المتحدة، وقد بدأت قطر في تطبيق نموذج مشابه من خلال المدينة التعليمية، رغم أنها تواجه تحدي نقص الطلاب المحليين، وهو ما لا يعاني منه المغرب.
10. مع التحول الرقمي السريع، هل الإعلام المغربي بحاجة إلى إعادة هيكلة رقمية لمواكبة المعايير العالمية؟
بالتأكيد، فالرقمنة أمر لا مفر منه. يجب على الإعلام المغربي التركيز على اللغتين العربية والإنجليزية في المقام الأول، ثم الفرنسية والإسبانية والأمازيغية. كما ينبغي تعزيز الحضور على المنصات الرقمية مثل يوتيوب، إكس، وإنستغرام، نظرًا لاستخدامها الواسع بين الشباب. أيضًا، معظم البنية التحتية الرقمية العالمية مبنية على اللغة الإنجليزية، لذلك يجب أخذ ذلك بعين الاعتبار عند تطوير المحتوى.
11. كيف يمكن إدماج الذكاء الاصطناعي في الجامعات المغربية لتعزيز الابتكار؟
أولًا، من خلال تشجيع الأساتذة على استخدام الذكاء الاصطناعي في التدريس، وتحفيز الطلاب على إجراء أبحاث باستخدامه مع التحقق من النتائج. ثانيًا، ينبغي توجيه الأبحاث نحو تطوير نماذج ذكاء اصطناعي متخصصة في الطاقة، الزراعة، والتمويل، كما تفعل جامعة محمد السادس متعددة التخصصات حاليًا. أخيرًا، يجب تشجيع البحث في تحسين كفاءة الطاقة لأنظمة الذكاء الاصطناعي، حيث يمثل استهلاك الطاقة تحديًا كبيرًا في هذا المجال.
12. ما هي نصيحتكم للطلاب المغاربة الطموحين الساعين لتحقيق نجاح أكاديمي عالمي؟
إتقان اللغة الإنجليزية هو المفتاح الأول، لأنه يفتح الأبواب للأبحاث الدولية. كما أن حضور المؤتمرات والتواصل مع الباحثين العالميين يُساعد في بناء شبكة مهنية قوية. أخيرًا، يجب على المغرب دعم قروض الطلاب، كما هو الحال في الولايات المتحدة، لتمكينهم من الالتحاق بجامعات مرموقة، مع إمكانية سداد القروض بعد التخرج والعمل.
#ضيوف_مع_خلدون #محمد_بلخياط #الكفاءات_المغربية #العلم_والتكنولوجيا #الطاقة_المتجددة #البحث_العلمي #الهندسة_الكهربائية #الابتكار