حوار بوشعيب مع الفنان والباحث والناقد التشكيلي إبراهيم الحيسن
1- كيف يمضي إبراهيم الحيسن شهر رمضان؟ وهل لهذا الشهر تأثير خاص على إبداعكم ونشاطكم النقدي؟
ـ بداية أبارك لكم وللقراء أجمعين هذا الشهر الفضيل الذي يشغل مكانة استثنائية داخل وجداننا الديني والرُّوحي المشترك، له طقوس وأجواء خاصة تختلف عن باقي شهور السنة الأخرى. في هذا الشهر تصفو النفس وتتطهر وتزداد الحاجة إلى البذل والعطاء ومضاعفة الجهد.
وككثير من زملائي المثقفين والمبدعين، أقضي أيام شهر رمضان في القراءة والكتابة وإنجاز الأعمال المؤجلة بسبب الضغط اليومي وكثافة الانشغالات التي نعيشها خلال باقي أشهر السنة الأخرى.
والحقيقة لا أدري سِرَّ زيادة طاقة الاشتغال لدي خلال هذا الشهر، بحيث أجد نفسي قادراً على إتمام أعمال متأخرة ومؤجلة عجزت عنها ونسيتها لأسابيع وشهور.
خلال شهر رمضان أستيقظ باكراً وأتفرغ للكتابة والتصحيح على إيقاع الموسيقى الرُّوحية الهادئة. يزداد هذا الشعور كثيراً ويتمدّد في فضاءات الصحراء العارية، هذا المكان الحميمي الرحب، مصدر الاستلهام والتخييل..
في الصحراء، خصوصاً في شهر رمضان، أشعر بالامتلاء والانتماء أيضاً..لا مجال للقيود. أكون حرّاً في رحلة أبدية وسط هبوب الرياح..
لكن، وبحكم ظروف العمل، أجدني بين جدران بيتي الصغير مختلفاً، حيث مجموعة من الفضاءات التي أرتادها تغلق أبوابها نهاراً، وبسبب ذلك تتقوى علاقتي بذاتي..بجسدي ضمن طقوس وإيقاع عيش آخر غير مألوف لدي وكأنه امتحان للرّغبات والنزوات بمعنى من المعاني.
2- هل هناك طقوس رمضانية مميزة لأهل الصحراء تختلف عن باقي مناطق المغرب؟ وكيف يتم التعبير عنها في الفنون والتراث؟
إلى جانب ممارسة العبادة والشعائر الدينية حيث تكثر الابتهالات والإنشاد الديني وتلاوة القرآن في المسجد، يبقى من أهم العادات الشعبية المتداولة في الصحراء خلال شهر رمضان إقامة المسامرات الليلية عقب صلاة التراويح، والتي يتم خلالها تناول مشروب “ازريك” (وهو اللبن الممذوق الذي ثلثاه ماء)، وإعداد الشاي وتناوله وفق الطقوس المحلية المعروفة مع ما يتخلل ذلك من إبداعات شعرية وأشكال التسلي الأدبي وسرد الحكايات الطريفة، فضلا عن تبادل الآراء ومناقشة المواضيع والقضايا ذات العلاقة بالحياة اليومية في بادية الصحراء.
من الناحية الزمنية، فإن الصحراويين يقسمون شهر رمضان إلى ثلاث مراحل، يسمون الأولى منها بـ`”عشرايتْ التركة” (أي الأطفال)، أو “عشراية ركوب الخيل”، حيث يكون الصائم قادرا على تحمل الصيام، وتسمى الثانية بـ”عشرايتْ أفكاريش”، أو “عشرايتْ ركوب لبل” (الإبل)، وهي مرحلة تتطلب من الصائم صبرا طويلا، فيما تسمى الثالثة بـ”عشرايتْ لعزايز” (المسنات) أو “ركوب لحمير”، للدلالة على بطء مرور الوقت والشعور بالتعب الناتج عن الصيام.
من الطقوس التراثية الأخرى الشائعة عند المجتمع التقليدي في الصحراء أن الكثير من الأطفال الذين يصومون لأول مرة، لاسيما خلال ليلة القدر، حيث يتم الاحتفاء بهم. فالذكور منهم، وبعد بلوغهم صيَّام أول شهر رمضان تحلَّق رؤوسهم مع ترك ضفيرة من الشعر بالرأس لها مسمَّيات محلية عديدة حسب الشكل والوضع الذي تتخذه، وهي على شكل گَطَّايَة (ضفيرة وسط الرأس)، أو گَرْنْ (ضفيرة في جانب الرأس).
بالنسبة لمائدة الإفطار خلال شهر رمضان، فإن الصحراويين يفضلون تناول أكلات ووجبات تلائم نمط عيشهم، وخصوصية حياتهم الخاضعة لظروف الطبيعة والمكان؛ فقديما كان الإفطار بالصحراء يقتصر على تحضير “النشا”، أو “لَحْسَا لَحْمَرْ” (الحساء الأحمر) المعد أساسا من دقيق الشعير إلى جانب التمر والألبان، فضلا عن الشاي الذي يعد مشروبا شعبيا، يحتل مكانة استثنائية في العادات الغذائية بالصحراء.
وغالبا ما يتم تناول أطباق في وجبة السحور، تختلف باختلاف الأذواق والأجيال والمستوى الاجتماعي للأسر، من بينها اللحم المشوي (الشّيْ) والمطبوخ (اطبيخة) والأرز (مارو)، والبلغمان المكوّن من دقيق الشعير الممزوج بالماء المغلي، وقليل من الملح والسكر، بإضافة الدهون والألبان. غير أن الوقت الحالي يشهد تغيُّرات كثيرة شملت هذه العادات والطقوس الرمضامية الخاصة بمائدة الإفطار لعوامل كثيرة يضيق المجال للحديث عنها.
3- المغرب مقبل على تنظيم كأس إفريقيا 2025 وكأس العالم 2030، كيف ترون هذه النهضة الرياضية؟ وما هو دور الفنان والمثقف في مواكبة هذه الأحداث الكبرى؟
ـ صحيح أن المغرب الرياضي يشهد انتعاشة كروية جديدة تمتد للاستحقاقات والأمجاد السابقة، وذلك بفضل السياسة التي ينتهجها في مقدمتها التكوين والتأطير، ولكن أيضا بظهور جيل جديد من اللاعبين المهاريين الذين يمارسون اللعبة ببطولات عالمية متطورة، فضلاً عن منح الثقة للمغرب لتنظيم تظاهرات كروية قاريا وعربيا ومتوسطيا وعالميا، أبرزها تنظيم كأس العالم لكرة القدم عام 1930 اشتراكا مع إسبانيا والبرتغال وهذا مكسب كبير يُحسب للمسؤولين عن الرياضة في البلد، دون نسيان الأداء الباهر الذي سجله المنتخب المغربي لكرة القدم خلال مونديال قطر.
إزاء هذه الصورة الرياضية المشرفة جدا، بات على الفنانين من مختلف المشارب والتعبيرات الإبداعية مواكبة هذه النهضة وتمثلها بجعل الفن في خدمة الرياضة، عبر العروض الموسيقية والأشرطة السينمائية والمسرحيات واللوحات الكوريغرافية والتشكيلية والبصرية. فثمة علاقة وطيدة بين كل هذه المجالات دليل ذلك ما يقدم خلال افتتاح التظاهرات الرياضية العالمية (الألعاب الأولمبية، كأس العالم، الألعاب والرياضات المتوسطية، البطولات العربية والإفريقية والأسيوية…) من عروض ومنجزات فنية وفولكلورية مدهشة لا تقل قيمة عن الأداءات الكروية داخل ميادين اللعب..
4- كيف تنظرون إلى إدماج الذكاء الاصطناعي في المعاهد الفنية والمناهج الدراسية؟ وهل يمكن أن يكون إضافة نوعية أم تهديداً للإبداع الفني؟
ـ يفتح الذكاء الاصطناعي Intelligence artificielle (IA) آفاقاً هائلة في العديد من القطاعات، وأمسى استعماله واقعاً يفرض نفسه على نحو تدريجي، لكنه لا يخلو من تأثير، ذلك أن إنجازات الذكاء الاصطناعي لم تعد تقتصر على الألعاب “البلايشتيشن” أو عالم الخيال العلمي. فالذكاء الاصطناعي المتداول الآن هو ذكاء آخر متوغل في كلّ مناحي حياتنا اليومية..
ولأن استخدام هذا الذكاء في الفن لا يزال جديداً نسبيّاً، فإن إدماجه في برامج المعاهد الفنية والمناهج الدراسية –دون تخطيط أو دراسة محكمة– يكون نوعا من المغامرة لعدة أسباب تتعلق بقتل الإبداع اليدوي المرتبط بعقل الإنسان وبعبقريته والاعتماد كليا على الإبداع الآلي الذي هو من ورائه الإنسان نفسه. ولكن يجب ألا يُفهم من هذا الكلام الاستغناء الكلي عن الوسائط والتقنيات التكنولوجية التي أفرزت هذا الوسيط الوافد، بل ينبغي الاستفادة منه وتوظيفه في إطار الفهم الصحيح وفي مجالات أخرى حياتية وخدماتية عديدة غير الفن، وألا نعتبر ذلك تشكيكا في القدرات الطبيعية للفنان.
5- خلال المناظرة الوطنية الثانية التي نظمتها مؤخرا بالرباط النقابة المغربية للفنانين التشكيليين المحترفين حول موضوع “الفنون التشكيلية والبصرية وصناعة المستقبل“، قدمتم خلالها مداخلة مهمة حول الموضوع. ماذاعنهذهالمداخلة؟
ـ لم أحضر أشغال هذه المناظرة بسبب انشغالات مهنية، لكنني بعثت بنص مداخلتي بعنوان “جمالية المدينة وسؤال المستقبل” قرأها بالنيابة –مشكوراً– الكاتب والإعلامي محمد معتصم، وهي مداخلة ذات موضوع بالغ الأهمية يتصل أساساً بجمالية المدينة وسؤال المستقبل مع ما ينطوي عليه الأمر من رؤى وتخصّصات وأدوار تتوزَّع بين الفنان التشكيلي والمهندس المعماري.
ـ خلصت المداخلة إلى اقتراح توصيات وتدابير، أبرزها الانتباه إلى أهمية الإبداع الفني في تشكيل العمارة وتشييد المدن. يقتضي هذا الأمر الاستشارة والاستعانة بخبرة الفنانين وإدماجهم في صلب مشاريع التنمية الحضرية إلى جانب المهندسين المعماريين. وكذلك إيلاء “الحق في المدينة” و“العدالة في السكن الجيِّد” العناية القصوى واعتبار هذا الحق مثل الحق في التعليم والعلاج والحياة بشكل عام، مع الحرص على جعل المدينة فضاءً كبيراً يتَّسع لحيوات الناس ويستجيب لأغراضهم ورهاناتهم، وذلك باحترام مختلف التوجيهات المتضمَّنة في المواثيق الدولية وأشغال المنتديات العالمية ذات الصلة والتي تكفل هذا الحق بالطرق القانونية والعادلة دون تفضيل أو تمييز وبعيداً عن كل استبعاد أو إقصاء اجتماعي. مع الإلحاح على إيجاد آليات فاعلة لدعم قطاع البناء على نحو كافٍ والمساهمة في زيادة الكفاءة في إنتاج المساكن وفق شروط بيئية وجمالية مريحة تتناغم مع حاجات السكان الضرورية.
كما دعت المداخلة إلى إعادة النظر في سياسات الإسكان والتهيئة الحضرية التي لا تزال تعيش في أقطارنا العربية عشوائية متنامية في الرؤية المجالية وتدبير القطاع تدبيرا فاعلا ومؤثرا، بمثل لفت الانتباه إلى أهمية المراقبة الفنية لمشاريع الإسكان بغرض الحفاظ على وحدة المعمار وجماليته وفق الأنماط الهندسية وأساليب التشييد المتفق بشأنها وحماية المنشآت والمباني من الأعطاب والتشوُّهات التي تنتجها تدخلات وتغييرات غير قانونية في جسد المدينة والحي.
6- ما هي مشاريعكم النقدية القادمة؟ وهل هناك مؤلفات جديدة قيد الإنجاز حول الفن التشكيلي أو التراث الصحراوي؟
ـ لدينا كتاب جديد بعنوان “وجوه ترانا– البورتريه في التصوير الحديث والمعاصر” صدر قبل أيام ضمن منشورات دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع والترجمة (عمَّان– الأردن)، وهو من القطع المتوسط يقع في 344 صفحة مع صور فنية إيضاحية. لوحة الغلاف تفصيلة لأحد إبداعات الفنان الياباني المعاصر تاكاهيرو كيمورا، والرؤية الجمالية للغلاف للفنان التشكيلي الأردني محمد العامري مشكورا. كما حفل الكتاب بتقديم تخصُّصي للفنانة والناقدة المصرية أمل نصر مشكورة. هذا إلى جانب كتاب آخر يجري إنجازه حاليا يتعلق بموضوع “اللباس التقليدي في الصحراء“، وهو دراسة حظيت هذا العام بدعم من طرف وزارة الثقافة والخاص بإقامة المؤلفين، وقد اخترت العاصمة الموريتانية نواكشوط كفضاء لإتمام هذه الدراسة بحكم تواجد محترفات كثيرة هناك خاصة بصباغة وخياطة الملابس التقليدية التي تحظى بإقبال وبشعبية واسعة من طرف النساء والرجال على حدّ سواء. فهذه الملابس هي عموماً رجالية كالدُّراعة واللثام وسْرَاوِيلْ لَعْرَبْ (سراويل فضفاضة تضمُّ أحزمة جلدية طويلة تمتد حتى القدمين تُسمَّى گْشَاطْ)، وأخرى نسائية أهمها الملحفة و“الرَّمباية” و“ليزار“، فضلاً عن أحايك والفروال..إلخ.
7- تحضرون حاليّا لإقامة معرض تشكيلي فردي بطنجة..ماذا عن هذا المعرض؟ وما هي خلفيته الثقافية والجمالية؟
ـ يتعلق الأمر بمعرض فردي اخترنا له كعنوان “للصحراء أثر..” يمتد لمعارض مماثلة أقمناها تباعا منذ عام 2017 بأكادير والصويرة والرباط بعناوين أخرى، منها “آثار مترحلة” و”مديح الأثر”..إلخ. المعرض المذكور سيقام خلال منتصف شهر ماي المقبل برواق المركز الثقافي إكليل التابع لمؤسسة محمد السادس للأعمال الاجتماعية لأسرة التربية والتكوين. وبمناسبته، سيصدر كاتالوغ يتضمن صور الأعمال الفنية إلى جانب حوار نقدي ثقافي ساهم في صياغة وطرح أسئلته مشكورين نقاد وباحثين جماليين مغاربة وعرب.
ـ وبشكل عام، تمنح لوحات معرض “للصحراء أثر..” خصائصها الفنية والجمالية والرمزية من مفهوم الأثر في اتصاله بتربة الصحراء وبثقافتها وجغرافيتها الواسعة باعتبارها متاهاتٌ لا حدود لها، وفضاءً سانحاً لتخضيب الحواس، على حدِّ قول أندريه جيد André Gide..
ـ إثر ذلك، تغدو اللوحات لباساً لآثار عديدة تتمدَّد وتتجانس على نحو إبداعي مختلف ومتجدِّد يمتد لتجارب صباغية سابقة نهلت أساساً من الفكر البصري الصحراوي ومن تراث الرحل Nomades، وهي تحبل بآثار وبقايا لونية متباينة تتبادل المواقع والدلالات الطيفية على إيقاع تعدُّد السندات والحوامل، وتحيا بداخلها مواد تلوينية محلية، أبرزها النيلة Indigo ببهائها الأزرق الداكن، فضلاً عن القماش الشفيف ومسحوق الجوز والأحبار ومواد الدمج والتغرية..وغيرها.
بهذه المناسبة، سنسعد كثيراً بحضور الأصدقاء والمهتمين بالحقل والفني والتشكيلي من مختلف المناطق والجهات ونعتبرها دعوة مفتوحة وممتدة، فمرحبا بالجميع..
8- كلمة ختامية؟
ـ شكرا جزيلا لكم، آملاً لجهودكم الطيبة المزيد من الاستمرارية والترسيخ..

























































 
			 
			 
			 
			 
			 
			 
			